زمن «العرابجة» وعنتريات الشوارع!
- القسم العام
- 2/7/2012
- 1604
- صخيفة الرياض -إعداد: منصور العسّاف
يا عيني على جيل «تي شيرت» و«برمودا» و«كدش» و«طيحني» و«بابا سامحني»
عرابجة الفصل في سبات عميق وتحدي على فرض شخصية الإهمال والتطنيش
العرابجة.. مصطلح محلي حديث لسلوكيات فئة عمرية حدثتنا عنها كتب الأدب، ووصفتها كتب التاريخ، فمن يقرأ السير والتراجم سوف يقف على "عرابجة" الزمان الأول مع مراعات تباين الأسماء وفروقات الأيام والسنوات. وبالنظر إلى مصطلح "العرابجة" نجد أن الصورة الذهنية السلبية لدى كثيرين إنما جاءت مع منتصف السبعينات الميلادية، حيث غلب على هذه الفئة التجمع عند "دكان الحارة"، والتسكع في الشوارع والطرقات؛ فضلاً عن العطالة والبطالة التي يعيشونها حتى جاز لبعضهم أن يطلق عليهم لقب "الدشير" - برغم براءة كثير منهم من مثل هذه الألقاب - مع أن الفرق واضح بين الفئتين، وإن تداخلتا في بعض الأوقات ولدى بعض الأشخاص، إلاّ أن العرابجة أناسٌ عرفوا بشدة البأس وجسارة القلب، والبعد كل البعد عن دروب الميوعة والليونة، وهم مع هذا أصحاب فزعات ومروءات، كانوا قبل عقود من الزمن يأكلون من كدهم وكدحهم وعرق جبينهم، ولهذا وصفوا ب "الكدادة"، وهم إن أردت وصفهم أصحاب رؤوس منفوشة يلوون غترهم أو يسرحونها على أكتافهم، ويتصفون بحدة الكلام، وصلابة الأجسام، وتواضع الهندام، ومع هذا فهم رجالٌ أشداء اضطرتهم طبيعة أعمالهم أن يخوضوا غمار تجارب ومغامرات، وأن يقطعوا طرقاً ومفازات، وتحكي لك نظراتهم وحدة طباعهم قدر المعاناة والمتاعب التي يواجهونها، ففي منظرهم ما يغني عن مخبرهم، وفي هندامهم ما يعكس صلابة أجسامهم.
الكدادة
يرفعون أكمامهم ويبزون صدورهم العارية والتشخيص ب«بنت البكار» أو إعادة «الطاقية» إلى هامة الرأس مع رفع قنزوعة الشعر ونفشها .
وفي العقود المتأخرة بقيت الصفات المحورية "للعرابجة" كما هي، إلاّ أن عامل الحداثة ودخول عالم التقنية وما صحبها من تغيرات اجتماعية جعل عرابجة زمان يتكيفون كغيرهم مع ظروف زمانهم، وجديد أحوالهم، وبتتبع بسيط للعقود القريبة المنصرمة تجد عرابجة السبعينات والثمانيات الهجرية عرفوا بين الناس بأنهم سائقو اللوري، أو الشاحنات، كما عرفوا بالتسعينات بقيادتهم لحافلات النقل الصغيرة، التي تسمى "خط البلدة"، ولا تسأل حينها عن عبارات الحب والغرام التي يطرز بها "العرابجة" آنذاك هياكل شاحناتهم، لا سيما أن أعمالهم وموارد رزقهم تتطلب منهم قطع المسافات، ومواصلة الرحلات في نقل البضائع والركاب، وحينها ستلمح رسومات الجفون والعيون الحور على صندوق اللوري، كما ستلمح عبارات "مر وعدي واصحى التحدي"، و"عين الحسود فيها عود"، و"من يطلب البعد حنا نطلب بعاده"، كما ستشاهد "زبرقة" الشاحنة بالألوان الزاهية بإضاءة "الاسطبات" والألوان العاكسة؛ فضلاً عن السلاسل والرموش والنسور المحنطة والنسافات والريْش على جانبي مقدمة السيارة بصندوقها الأخضر الزاهي، أو إن شئت بالأحمر القاني، الذي يتباهى به عرابجة ذاك الزمان وهم يرددون:
على كف القدر نمشي
ولا ندري عن المكتوب
عبارات السيارات: «مر وعدي واصحى التحدي» و«عين الحسود فيها عود» و«من يطلب البعد حنا نطلب بعاده»
ولا يستغني "العربجي" آنذاك عن ما يسمونه "المعاوني"، وهو رفيقه الذي يجلس بجانبه ويعاونه على ملمات السفر، ومدلهمات الأحداث، كما أنه يجبي النقود ويتزهل بأمر البراد و"الزمزمية" وشاي التلقيمة، و"يرد الصوت" ويقطع بسواليفه وقصصه وأشعاره مسافة الرحلة، وربما يتسلم "الطارة" إن استدعى الأمر ذلك، وحينها سوف يطرب الركاب في اللوري أو "الباص" مع أشعار المعاوني التي تفيض من بحر الحب والغرام، وتعبر عن مكنون الجراح والآلام، ولكنها وإن اتسمت بالتعابير الوجدانية والمشاعر الفياضة، إلاّ أنها أبداً لا تتخلى عن شموخ صاحبها وكبريائه، بل إنها تحكي لك بصدق عن حال ذلك "العربجي" الذي راح يردد على مسامع زميله المعاوني أبياتاً من الشعر عله يحرك ما سكن من مشاعره وهو يقول:
حبك حشرني حشرة القير باثنين
مير البلا يا خوك ما من عزيمه
لكن المعاوني لا يأبه به فيحاول إثارته ببيت آخر ليقول:
قلبي على فرقاك ما ينقصه زيت
واليوم أزيده لين راس المكينة
فينصب سيل المعاوني دفعة واحدة من أبيات الشاعر إبراهيم الرديعان:
ياراكب اللي لا مشى ما تقل ياط
من سرعته خطه دواوير وشخوط
جديد ما حمل به العفش وبساط
الا ولا قالوا موضب ومخروط
مراتبه مخمل والأرضية ابساط
وشعار تايوتا على الخشم محطوط
يطرب ليا منه ضرب طلعة الغاط
لا حس لا ونه ولا صوت عرموط
كانت "العجرا" رفيق دائم للعرابجة، بل كانت صديقهم في الفزعات ووقت الأزمات، لا يبغون لها بديلا، ولا عما سواها خليلا، تصحبهم في الحل والترحال، وبمختلف الظروف والأحوال لهم منها صادق الوعد وشدة الضرب، ولها منهم الحلم والاعتدال وصادق الحفظ والدلال.