الشعر الشعبي بين الرفض والقبول

الشعر الشعبي بين الرفض والقبول

 

متلقي الشعر الشعبي والفصيح لا يفهم معاني هذا ولا ذاك وإن طرب له وردده

أجزم أن الكثيرين منا يسكنهم الخوف من كثرة الضخ المتتابع للشعر الشعبي عبر الهواء وملء الفضاء ، خاصة عندما يقوله من لا يجيد الشعر ولا مبانيه ولا معانيه ومضامينه وبلهجة محلية لا تمد بصلة إلى اللغة العربية .

إنتاج يفتقر إلى المعرفة باللغة العربية خاصة ويفرغ المزيد من العامية ، ولا يوصل خبرة ومعنى ولا هو يحدوه قول الشعر على البوح من معاناة حقيقية ، ولكن لمجرد حجز مقعد ضمن المجموعة التي لا يؤهله ما يقول لكي يكون فيه كما أن المقعد لا يحتويه كثيرا .

والمتلقي بالطبع هو الحكم ، وهو الذي يملك كل المقاعد ، وهو الذي يعطي الأوسمة الضمنية ابتداء ، ولولا الجماهير التي تفتح ديوان الشعر وتغلقه وتدون فيه وتمسح ما صار لشاعر صدى صوت ولا بقي له في الأفق الثقافي حرف أو كلمة .

وهذا لا يعني إرضاء الجماهير ممثلة في المتلقي بكل درجات فهمه ومستوى ثقافته ، فليس الهدف أن يرضى وإنما الهدف أن يرتقي بذائقته ويعطى جرعات كبيرة من الوعي والفائدة وتعريفه بما هو أفضل وبما يرفع من رصيده الثقافي.

ولا يوجد شاعر ناجح يكون همه إرضاء الجمهور وتصفيقهم فقط ، وتقديم ما يعرف أو ينسجم معه فقط، لأن هذا الهم ينتج عنه سجن المتلقي في إطار ما هو عليه دون انتشاله إلى أفق أرحب ، هو في الأصل لا يعرفه ، وبالتالي غائب عنه لا يعرف ميزاته ولا يدري عن سلبيات ما هو فيه حتى ولو استعذب البقاء فيما ألفه واحتبس في مقعده .

ونقرأ ونسمع النداءات المتكررة التي تطلب تحجيم الانسياق وراء الشعر الشعبي لسبب واحد فقط وهو :

الخوف على اللغة العربية الفصحى ولولا ذلك لم يكن هناك مشكلة.

وهذا الصوت والنداء والتحذير والتخويف وكل المصطلحات التي تصب في هذا الاتجاه وفي قناة التنبيه مع ارتفاع نسبة المصداقية التي تحملها جاءت من غيورين بلا شك ومع الغيرة رؤية بعيدة وتجربة وحكمة وحنكة ، ومقارنة وواقعية ، والحق أن يتم التمعن فيها و سماعها والأخذ بكل وسيلة تحقق الاستجابة لها ، لكن هذا المطلب وأعني به الاستجابة تحتاج إلى فكر وفكرة وطريقة وتضامن واعتراف بأن هذا الشيء ممكن الآن ومشكلة في آن واحد.

فمتى ما اعترفنا بالمشكلة وكشفناها فإن الحل ميسور وممكن .

ولا ننس أننا نعيش حالة فريدة جديدة في ظل وظروف انفتاح الفضاء وهبوب الأعاصير من كل جهة واستبعاد المنع تماما والتفكير في مسألة الارتقاء بالشاعر نفسه وهو المصدر ، فمن البذرة و الجذر تنمو الشجرة فتكون كما انتقينا بذرتها ، ويأتي التقليم لمزيد من الحسن والجمال .

ولو كان هذا النداء فيما مضى لكان الأمر أسهل و لتحققت السيطرة التامة أو بعضها ، لأن المؤثرات وعوامل الهدم إن وجدت قليلة ، وتنحسر في اللهجة الدارجة في المجتمع والتعامل لا أكثر ، إنما اليوم وفي الوقت الحاضر صار الأمر أصعب واتسع الخرق على الراقع ، وصار حصر المؤثر أصعب ولكن ليس بمستحيل .

هذا جانب من المشكلة وهو ما يتعلق بالشاعر الشعبي ولهجته وأدواته وحصيلته اللغوية وإنتاجه ولا نعمم بالطبع لكن حوله تدور التساؤلات وتبحث الحلول .

أما الجانب الآخر فهو المتلقي ، الذي لا يميز بين الفصيح من لغتنا وبين العامي ، فبعض المتلقين لا يعرف أصلا اللغة العربية الفصحى رغم أنه ينادي بها ويتحمس لها وربما كان من أول الجهلاء بمفردات كثير منها لأنه لا يستخدمها في حياته العملية وتعامله حيث عمت وانشر استعمال اللهجة في الحياة وكل المعاملات وفي الأسرة والشارع ، وما يستعمله يظنه عامياً أو لهجة دارجة وليست عربية ولهذا يرفضها عندما يسمعها وحق عليه أن يقبلها لو كان يعلم بأنها عربية فصحى ، والمشكلة أنه يعتبر كل ما يتضمنه الشعر الشعبي عامياً ويفترض محاربته ، بينما فيه فصيح من عمق لغتنا ولكن لجهله به يرفضه باعتبار أن قائلة يمكن أن يكون عامياً بناء على سماعه ومصدر السماع أو بناء على أسلوب المعيشة وطبيعة الحياة للشاعر أو بسبب التراكيب ، وكأن قائل الفصحى لابد أن يكون له مواصفات معينة ، ويلقي شعره في النادي الأدبي أو في محفل الجامعة أو المدرسة ، أما إن قاله شاعر حول الإبل وبيت الشعر أو في الصحراء وحول سيارات وخيام جهزت لكي تستكشف الربيع ورحلات برية فإنه لابد أن يكون كل ما يصدر منه عامي يفترض محاربته .

والصحيح أن الشعر الشعبي وكذلك الشعر الفصيح يقابل اليوم بمتلقي قد لا يفهم معاني هذا ولا ذاك وإن كان يطرب له من سماعه ويردده ، وقد تكون النسبة عالية لو نلاحظ هذا وليس من دراسة ، والنسبة متساوية بين الشباب والكبار ، فالكل يصعب عليهم فهم القصيدة كاملة ومغزاها سواء شعبية أو فصحى .

فلو أخذنا هذين البيتين من الفصيح لزهير :

أمن أم أوفى دمنةٌ لم تكلم

بحومانة الدراج فالمتثلم

بِهَا العِيْنُ والأرام يَمْشِينَ خِلْفَةً

وَأَطْلاؤُهَا يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَمِ

فلا أشك أن المتلقي إن لم يكن متخصصا فسوف يبحث في القاموس للمعرفة معاني عدة كلمات قبل أن يصارع الأمر للوصول إلى الفهم من عموم النص .

والعيب بالطبع في ثقافة المتلقي وليس في اللغة ولا الشاعر الذي قالها .

وفي الشعر الشعبي نأخذ هذين البيتين للشاعر السحيمي :

يا كبر فرق البوم عن طير قرناس

قرناس صف الريش عقب المباتي

أصله وحش ما قد وكر وسط مجلاس

و عمره نقص من سن خمسٍ فواتي

ولن يفهم المعنى جميع المتلقين له ، وهو أمر طبيعي فالبيئة لها دور في فهم مفردات ووجهة نظر ورأي الشاعر وأيضا من المتوقع محدودية فهم القصيدة الشعبية لعامية التراكيب ، فبيئة البادية لها مصطلحاتها وبيئة الحضر كذلك والمجتمعات لها لهجاتها المختلفة ، والغرابة لابد أن تكون بسبب تنوع الثقافات والبيئات .

وما كان غريبا على الإنسان رفضه أو توقف عن التفاعل معه ، ومع تكرار الرفض لها يزداد بعدا وجهلا به ، حتى يدخل مرحلة الشك في كونه يحمل معنى ، وينسحب هذا القول على المفردات التي يتكون منها البناء كله للشعر ، سواء كان شعبياً أو فصيحاً ، ويكون مقياس المتلقي هو ثقافته التي لا تسعفه أصلا لأن يحكم على الكلام الذي أمامه هل هو فصيح أو عامي.

ونصل إلى نتيجة وهي :

علينا أن نرفض المفردة العامية تماماً ولا نسمح لها بالتواجد في شعر أو نثر بقدر ما نستطيع ، وهذا القول يوجه للشعراء المثقفين الذي يجبرون عاميتهم أحيانا على الحضور وفصيحهم أن يحبس ويوارى ، في حين تنادي الفصحى خذوني خذوني ، لكن لا استجابة ، ظنا منهم أن في العامية تلبية رغبة للمتلقي ، وهذه توصل إلى التصفيق والقبول والكثرة الجماهيرية ، وربما ظنوا خطأ أن فيها رائحة من أصالة لأن الشاعر العامي السابق استعملها لعدم قدرته على استجلاب غيرها لخلو ذاكرته من الفصيح.

فهذا كله غير مقبول من الشاعر المثقف المدرك للغة والمميز للعامي من الفصيح ، فاختياره والحالة تلك جانبه الصواب.

أما الشاعر العامي فله نصيبه من الساحة بحكم حرية الرأي ولأنه لا يمكن حجب إنتاجه في ظل الظروف الراهنة ، لكن المشكلة هي تغذية الجماهير بذائقة تهيئ أرضية خصبة لبقائه وانتشار عطائه .

وعلينا أن نفرق بين الشعر العامي من جهة وهو ما يصدق عليه عامي من خلال كلماته وتراكيبه ولهجة قائله، وبين الشعر الشعبي أو النبطي الذي يأتي بحسب قائله وثقافته ولغلته ،فالعامي ما حمل مفردات عامية وتضمنها بحيث لا يوجد لها أصل في اللغة العربية أو قام على تراكيب تسيء إلى اللغة العربية بلهجة محلية ، والأمثلة على ذلك كثير وخاصة ما تأثرنا به من كلمات دخيلة فارسية وتركية وغربية وغيرها ، وأيضا ما استحدثنا كمسميات لما يستعمل في المرعى والمعيشة و المزرعة أو الحياة عموماً وما أكثرها فهي مصطلحات محدودة ومحلية لا يفهمها سوانا ، فكل حركة وسكنة نجعل لها دلالة ومصطلح نخترعه لا أصل له في أي لغة . وهذا هو الذي يفترض أن نتجنبه حتى لا يرسخ في الأذهان ويتسلل للأصالة بعد أن يتأصل بيننا في مكان ليس مكانه.

أما الشعر الشعبي فليس كله عاميا وهو بحسب ما ينطق الشعب في زمن ما ، وهو بالأمس جله فصيح من أصل لغتنا ، ولكننا نجهل أحيانا أن الكلمة فصيحة فنعيبه ، فعلينا أن نتعلم و نثقف أنفسنا ثم نحكم وأيضا كلما تثقفنا كشعب ، فإنه سيدر منا شعرا فصيحا صحيحا ، ولهذا نعيب شعرنا والعيب فينا وما لشعرنا عيب سوانا .

 

Facebook Twitter Google+ Pinterest Reddit StumbleUpon Linkedin Tumblr Google Bookmarks Email

عدد المقيّمين 0 وإجمالي التقييمات 0

1 2 3 4 5