في خيمة التاريخ
- العادات والتقاليد الثقافه والتراث
- 7/4/2012
- 1777
- د. عبد الرحمن بن صالح العشماوي -الجزيره
خيمة محكمة النسج، ثابتة الأوتاد، مشدودة الأطناب، فسيحة الفناء، منصوبة هنا في (وادي نعمان) في مكة المكرمة، كنت أشعر وأنا أرى جبلَيْ نعمان، وأرى هنالك أضواء جبال الريان (الهدا)، وأتأمل القمر المحاط بما زيَّن الله به السماء الدنيا من النجوم، بأنني أجلس مع الشاعر أبي حية النميري وهو يردِّد على مسمعي:
تضوَّع مِسْكاً بطنُ نعمان إذ مشت
به زينب في نسوة عَطِرات
وكأنما تجاوبت أرجاء الوادي مع صوته المفعم بالحنين فأعادت إليّ من الأصداء ما حرك المشاعر، وبعث كوامن الأشواق. هنا خيمة التاريخ؛ فأنا الآن في ضيافته، أجالس من تغنى بهذا الوادي العريق من الشعراء، أستمع إلى ما دبجته قرائحهم من شعر وجداني رقيق. أكاد أرى بأم عيني قيس بن الملوّح المعروف بـ(مجنون ليلى) وهو متكئ على حجر تحت شجرة سَلَم وهو يقول:
أسائلكم هل سال نعمان بعدنا
وحُبّ إلينا بطن نعمان واديا
ألا يا حمامَيْ بطن نعمان هجتما
عليَّ الهوى لما تعنَّيتما ليا
بل إن صوته كان يردد وجنبات الوادي ترجِّع:
أيا جبلَيْ نعمان بالله خلِّيا
نسيم الصبا يخلص إليَّ نسيمها
أجد بَرْدَها أو يشف مني حرارة
على كبد لم يبقَ إلا صميمها
فإنَّ الصبا ريحٌ إذا ما تنسَّمت
على نفس محزون تجلَّت همومها
ويا ريح مُرِّي بالديار فخبِّري
أباقيةٌ أم قد تعفَّت رسومها؟!
ألا إنَّ أهوائي بليلى قديمةٌ
وأَقْتَلُ أهواء الرِّجال قديمها
يا لروعة هذا المكان، هنا أجالس الشعراء في خيمة التاريخ؛ فأجد متعة المكان، والأنس بالجليس، وأسمع فيمن سمعت من الشعراء عمر بن أبي ربيعة الشاعر (الغَزِل) المدلَّ بنفسه وهو يقول:
تخيرت من نعمان عود أراكةٍ
لهند، ولكن من يبلِّغه هندا؟!
فأشعر بحسرته الكبيرة تفيض ساخنة من قوله «ولكن من يبلِّغه هندا». وكيف لا أشعر بحسرته وهذا التساؤل مفعم بها، مشتعل بنارها، وقد جمع بين شغف العاشق، وحسرته، ويأسه من لقاء محبوبته، وهذه خلطة شعرية بامتياز.
تخيَّلت أن أولئك الشعراء يستنشدونني الشعر، وقد طاب لهم الجلوس في خيمتهم التاريخية، كما طاب لي، وفي نفوسهم توق إلى سماع شعر يعبِّر عن وجدان عاشق مغرم بظبية فلاة، أو ببيضة خدر لا يُرام خِباؤها كما قال عفريت الشعر العربي (امرؤ القيس)، وكنت أنوي أن أسمعهم مثل قولي:
شفاه صمتك ما زالت تناديني
وتسكُبُ الصمت لحناً في شراييني
ما كنت أعرف صمتاً ناطقاً أبداً
حتى سمعتكَ في صمتٍ تناجيني
أكاد أحلف أنَّ الصمت عاصفةٌ
أو أنه من أحاديث البراكين
ولكنني وجدت نفسي منطلقاً على سجيتي، أنشدهم:
صباح الشهادة يا إدلب
ويا حمصُ، فيها الأسى يُلهب
صباح الشام التي لم تزل
بها كفُّ جلادها تلعب
صباح انكسارات بشَّارها
فإني أرى ليله يهرب
صباح انتصارات شام العُلا
فإني أرى نصرها يقرب
صباحاً تتوق لأنواره
دمشق، ومسجدها الأرحب
صباح السلامة، لا حيَّة
نُصيرية فيه أو عقرب
هنا استوقفوني وهم يرددون بصوت واحد: ماذا تقول؟ وأي خطب أصاب الشام؟ وهل يليق بشاعر أن يذكر من الشام إلا دمشق الهوى والجمال، والغوطة التي تفوق الخيال، وجبل قاسيون الباذخ شرفاً بين الجبال؟ وأهازيج خرير نهر بردى، ووقع خطوات ربات الحجال؟.. ولما هدأت عندهم زوبعة السؤال، قلت: على رسلكم يا شعراء الظبية، والحمامة، والغزال؛ فدمشق شامنا تعاني ظلماً واعتداء وطغياناً. قالوا بلسان واحد: وأين أمَّة الضرب والطعان، والسيف والسنان؟ قلت: كما شغلكم الغزل بالصبايا الحسان عن ميادين الفرسان شُغِلتْ أُمَّتكم في هذا العصر بأشكال من الهوى وألوان، حتى غدت على حالة مؤسفة من الذُّل والهوان.
فما راعني من الشعراء الثلاثة إلا نهوضهم غاضبين؛ فبقيت في خيمة التاريخ وحيداً أردِّد:
كنَّا نعالج جرحاً واحداً فغدت
جراحنا اليوم ألواناً وأشكالاً