اسلام جرير بن عبد الله بن جابر البجلي

اسلام جرير بن عبد الله بن جابر البجلي

 

جرير بن عبد الله بن جابر البجلي : فاتح خانقين وحلوان وقرقسيس وهمذان . قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم ثبته وأجعله هادياً مهدياً .

وما أرجو بجيلة غير أني**أؤمل أجرهم يوم الحساب

فقد لقيت خيولهم خيولاً**وقد وقع الفوارس في ضراب

ولقد دلفت بعرصتهم فيول**كأن زهاءها إبل جراب

أ- كـيـف كـان إسـلام جرير ؟

يدخل جريـر البجلي الإسلام مـن بـاب جميـل اسمـه حسن الأدب أو نقول اسمـه حسن الـذوق ولا عجب فهـو رجل مـنّ الله عليه بجمـال واضـح مـن الخلق (بفتح الخاء) وحسن السمت ووسامة في المظهـر فشاء سبحانـه وتعالـى أن يعطينا من خلاله درساً في جمال الأدب وحسن الذوق ورقة المعاملة جاء جرير إلى مجلس رسول الله ? ولــم يـكـن أسـلـم بـعـد، جــاء بنفـسـه ينـظـر ويسـمـع ويـسال ويتحقـق فلقد بلغه عن هذا النبي أشياء وأنباء واختلف الناس في شأنـه بـين مـصـدق ومتردد ومشكك ومـكذب وفي كل يوم يـزيد المصـدقون ويستيقن المشكـكـون ويـقـل المكـذبـون، وجـريـر وهــو سـيـد قـومـه يأتـيـه مــن أهـلـه وعشيرته من يسأله أن يستشيره أو يحدثـه عن محمد وما يدعو إليـه محمد.

فليذهب بنفسه إلى هذا الذي يزعم أنه نبي فليس من رأي كمن سمع. أول ما يفاجأ أبو عمرو جرير في مجلس النبي ? ببساطة تحوطها السكينة ويخيم عليها الجلال والوقار وفي لحظة خاطفة وما زال جرير واقفاً لم يجلس بعد يخيب ظنه ولعله كان يرجوا أن يخيب هذا الظن وزال شكه ولعل كان يأمل أن يزول: فهذا (الرجل) كما يزعمون لم يطلب لنفسه ملكاً ولا يضمر كسباً من مال أو زعامة ولا أبهة وينظر جرير في الجالسين بحثاً عن مكان مناسب لسيد القبيلة يكون قريباً من النبي ? فلا يجد فالمسلمون متلاصقون فـي خشـوع لا يكـادون يشعـرون بوجـوه وحتـى إذا شعـروا بـه فـإن النبـي ? علمهـم ألا يقفـوا لمقـدم أحـد وأن القـادم يجلـس حيـث ينتهـي بـه الصـف أو المجلـس وقـد فعـل هـو ? ذلـك مـن قبـل ولمـا كـان المكـان مكتظـاً فقـد جلـس جريـر علـى عتبـة البـاب ورآه النبـي ? مـن مكانـه فـي صـدر المجلـس فخلـع بردتـه ولفهـا ثـم ألقهـا إلـى جريـر وهـو يقـول (إجلـس علـى هـذا).

مفاجأة ثـانية كأنهــا الـصدمة المـنبهـة وكأن النبي ? وهو يـلقي إليه ببردته الـشريفة على ملأ من الجـالـسين إنما وجه إلى قلبه ووجدانه (قذيفة) من نور بددت كل ظلمات الشك والإحجام والـتـردد فـي نفسه دفعة واحدة فأخذ جرير البردة ووضعها على وجهـه وقبلهـا وبكى ثم ردها إلـى النبي ? وهو يقول: ما كنت لأجلس على ثوبك، أكرمك الله كما أكرمـتني.

درس كبير – ويا له من درس. لكن الدرس لم ينته بعد إذ نـظر النبي ? بميناً وشمالاً كـأنه يلفت نظر الجالسين وينبه من ورائهم الغافلين ثم يـقول: (إذا أتاكم كريم قوم... فأكرموه).

ب – وقت إسلامه

اختلف في وقت إسلامه ، فهناك من يذكر أنه أسلم قبل أربعين يوما من وفاة النبي ? وهذا خطأ لما ثبت في الصحيحين: البخاري ومسلم، إن النبي ? قال له: (استنصت الناس) في حجة الوداع وذلك قبل التحاق الرسول ? بالــرفيق الأعلى بأكثر من ثمانين يوماً.

وجزم الواقدي: بأنه وفد على النبي صلى ? في شهر رمضان سنة عر للهجرة، وهذا خطأ أيضاً لأن جريراً يروي أنه سمع الرسول ? ينعي النجاشي وهذا يدل على أن إسلام جرير كان قبل سنة عشر للهجرة.

والصحيح أن إسلامه كان سنة تسع للهجرة وهي سنة الوفود ، لقد كان جرير موضع ثقة النبي ? قال جرير: ( ما حجبني رسول الله ? من أسلمت ولا رآني إلا ضحك ، وأرسله النبي ? ليهدم (ذا الخلصة) وهو من الأصنام البيضاء منقوش عليها التاج، وكان (بتبالة) بين مكة واليمن على مسيرة سبع ليال من مكة وكان سدنتها بنو أمامة من باهلة بن أعصر، وكانت تعظمها وتهدي لها خثعم وبجيلة وأزد السراة ومن قاربهم من بطون العرب من هوازن ، وذا الخلصة أيضاً الذي فيه هذا الصنم بيت كان يطلق عليه في الجاهلية اسم الكعبة اليمانية فسار إليه اجرير على رأس مائة وخمسين فارساً فهدم الصنم والبيت وحرقها وعاد سالماً فدعا له النبي ? وأرسله النبي ? إلى اليمن يقاتلهم ويدعوهم إلى الإسلام ، فقد بعثه النبي ? إلى ذي الكلاع ابن ناكور بن حبيب بن مالك بن حسان بن تبع وإلى ذي عمرو ويدعوهما للإسلام فأسلما وأسلمت ضريبة بنت أبرهة امرأة ذي الكلاع وتوفي رسول الله ? وجرير عندهم فأخبره ذو عمرو بوفاته ? فخرج جرير إلى المدينة.

ج – جهاده وقومه بجيلة لمحاربة المرتدين من أهل اليمن

عاد جرير إلى المدينة وأخبر أبا بكر بارتداد من ارتد من أهل اليمن عن دينه وبثبات من ثبت عليه، لكن أبا بكر رد جريراً إلى اليمن ليصمد مع الثابتين على دينهم من قبيلة بجيلة تجاه تيار المرتدين الجارف والشد من عزائـم الملمين القليلين لمشاغله المرتدين الكثر حتى تردهم النجدات، فخرج جرير ونفذ أمر أبي بكر، فلم يـصادف مقاومة تذكر إلا من نفر قتلهم وطاردهم ، فلما وصل المهاجر بن أمية اليمن من عند أبي بكر – وكان آخر من تـحرك من المدينة لحرب المرتدين – حتى حاذى جريراً ضمه إليه ، وكان جرير حيـنذاك ينجران ، فقاتل جرير وأتباعه أهل الردة تـحت لواء المهـاجر بن أمية فـسار من نـصر إلى صنعـاء.

لقد ثبت جرير بالرغم من ارتداد معظم قومه (بجيلة) فكان ثباته ذا أثر كبير على إعادة بجيلة للإسلام ومن العوامل المهمة لانتصار المسلمين السريع الحاسم على المرتدين من أهل اليمن.

د – طلب جرير من أبي بكر رضي الله عنه جمع بجيلـة

وسار جرير يجاهـد تـحت لواء خالد بن سعيد في أرض الشام ولكنه أستأذن خالداً إلى أبي بكر ليكلمه في جمع قـومه (بجيلة) وكانوا أوزاعاً في العرب، فلما سمع أبو بكر حديث غضب عليه وقال له: (ترى شغلنا وما نحن فيه بـغوث المسلمين ممن بإزائهم من الأسدين: فارس الروم: ثم أنت تكلفني التشاغل بما لا يغني عما هو أرض لله ورسوله! دعني وسر نحو خالد ابن الوليد حتى أنـظر ما يحكـم الله في هذين الوجهين فسار جرير حتى قدم على خالد بالحيرة بعد فتحها ولم يشهد شيئاً من قبلها بالعراق .

هـ- جرير يشهد كافة معـارك خالد بن الوليد

ولما غادر خالد بن الوليد العراق إلى الشام اتصحب معه جريراً، فشهد معارك خالد كافة في طريقه إلى الشام وفي معركة اليرموك برز اسم جرير أحد الفدائيين الفرسان من المهـاجرين والأنصـار، وهم مائة فارس انتخبهم خالد من بين جيش المسلمين كله، كل فارس يرد جيشاً وحده( )، للتأثير بهم على معنويات الروم قبيل معركة اليرموك الحاسمة.

و – عمـر يأمـر بجيلـة بالتـوجـه إلــى الـشـام

وبـلغ عـمـر بـن الـــخــــطــــاب نـــتــــائــــج معركــــة (الـجسر) في الـــــعــــــراق واســتـــشـــهـــاد أبي عـــبــــيــــدة الــثـــقـــفـــي وصحبه فـيها، فندب الـنــاس إلى الــمـــثـــنـــى بـن حـــــارثــــــة الــشــيــبــانـــي، وكـــــــــــان فـــيــــمــــن نـدب (بــجـــيـــلـــة) فـــــــــــي الــجــاهــلــيـــة وثــــــبــــــت عــــلــــيــــه في الإسلام فــــأخــــرجــــوه إلى جــــــريــــــر .

وتــجــمـــعـــت بــجــيـــلـــة وعـــــلـــــى رأســـــهـــــا جـــــريـــــر، فـــــقـــــال لــــــــــه عـــــمـــــر: (أخــــــــــرج حـــــتـــــى تـــلـــحــــق بــالــمــثــنــى) فـــــقـــــال جـــــريـــــر (بــــــــــل الـــــشـــــام)، فـــــقـــــال عـــــمـــــر: (بــــــــــل الـــــعـــــراق: فــــــــــإن أهــــــــــل الـــــشـــــام قــــــــــد قــــــــــووا عـــــلـــــى عـــــدوهـــــم)، وجـــــعـــــل عـــــمـــــر لـــجـــريــــر وقـــــومــــــه ربـــــــــــع خـــــمــــــس مـــــــــــا أفـــــــــــاء الله عــلـــيـــهـــم فـــــــــــي غـــزواتــــهــــم .

ورأى مـــــــا صـــنــــع بـبـجـيــلــة فـــحــــذوا حـــذوهــــم، وكـــــــان الـــذيــــن فـــــــروا مـــــــن مــعــركـــة (الــجــســـر) فـــــــي مـقـدمـتــهــم، ثـــــــم تـابــعــهــم بـــنــــو الأزد وبـــنــــو كــنــانـــة وخـــلــــق كــثــيـــر مـــــــن مـخــتــلــف الـقــبــائــل وســـــــاروا يـــريــــدون الـــعــــراق ، وقـــاتــــل جـــريــــر وقـــومــــه تـــحــــت رايـــــــة الـمــثــنــى بـــــــن حـــارثــــة الـشـيـبــانــي الـــقــــوات الــفــارســيــة فــــــــي مــعـــركـــة (الــبـــويـــب)، أول مــعـــركـــة حــاســـمـــة مــــــــن مــــعــــارك الـمـسـلـمــيــن فــــــــي الــــعــــراق.

ز – بجيـلـة تتـابـع الـفـرس فــي مواطـنـهـا

ولمـا انهـزم الفـرس قـال المثنـى: (مـن يتبـع النـاس)؟ فقـام جريـر فـي قومـه، فقـال: ( يـا معشـر بجيلـة إنكـم وجميـع مـن شهـد هـذا اليـوم فـي السابقـة والفضيلـة والبـلاء سـواء، وليـس لأحـد منهـم فـي هـذا الخمـس غـداً مـن النفـل مثـل الـذي لكـم منـه ولكـم ربـع خمسـه نفـلاً مـن أميـر المؤمنيـن، فـلا يكونـن أحـد أسـرع إلـى هـذا العـدو ولا أشـد عليـه منكـم للـذي لكـم منـه ونيـة إلـى مـا ترجـون، فإنمـا تنتظـرون إحـدى الحسنيـن: الشهـادة أو الجنـة، أو الغنيمـة والجنـة) ، وهكـذا تطوعـت بجيلـة بقيـادة جريـر لمطـاردة الفـرس وأرسـل جريـر يخبـر المثنـى بسلامـة بجيلـة كمـا أخبـر القـادة الآخـرون الذيـن طـاردا الفـرس بسلامـة قواتهـم، وسألـوه جميعـاً التغلغـل عمقـاً فـي مطاردتهـم فـأذن لهـم المثنـى فـأغـاروا حـتـى بلـغـوا (سـابـاط) عـلـى مــرأى مــن المـدائـن لا يخـافـون كـيـداً ولا يلـقـون مانـعـاً

ولــــــــمــــــــا انـــــســـــحــــــب الــــمــــثــــنــــى بـــــقـــــواتــــــه إلــــــــــــــــى (ذي قــــــــــــــــار) انـــــتـــــظــــــاراً لــــــــلإمــــــــدادات، كــــــــــــــــان جــــــــريـــــــــر عــــــــلـــــــــى رأس بــــجــــيــــلـــــة يــــــــقـــــــــوم بــــــــواجـــــــــب الــــــــقـــــــــوات الـــــســــــائــــــرة الــــــــتـــــــــي تـــــحــــــمــــــي قـــــــــــــــــوات الــمـــســـلـــمـــيـــن الأصـــــلــــــيــــــة مـــــــــــــــــن قـــــــــــــــــوات الــــــــفـــــــــرس الـــمـــتـــفــــرقــــة.

ح – أثر بجيلة في انتصار المسلمين في حرب القادسيـة:

وتولـى سعـد بن أبـي وقـاص قيـادة الـمــسلــمين في الـعراق، فقاتلت بجـيلة التي يقدر عددها بألفي مقاتل( ) تحت راية سعد في الـــقـــادســـيـــة فــــــكــــــان لــــجــــريــــر ولــبــجــيـــلـــة أثــــــــــــر ظــــــاهــــــر فــــــــــــي الانــــتــــصــــار عــــــلــــــى الــــــفــــــرس فــــــــــــي هــــــــــــذه الـــمـــعـــركـــة الـــحـــاســـمـــة.

كـــان سـعــد مـريـضـاً بالـدمـامـل عـنـدمـا كـانــت رحـــى مـعـركـة القـادسـيـة تـــدور، ولـكــن رجـالــه لـــم يـكـونـوا يعـمـلـون بحقـيـقـة مـرضــه الـــذي أقـعـهـد عـــن مـبـاشـرة الـقـتـال بنـفـسـه كـمــا يـفـعـل قـــادة الـعــرب فـــي حـروبـهـم ليـكـونـوا مـثــالاً شخـصـيـاً يـحـتـذى بـهــم، لـذلــك تـذمــر بـعــض رجـــال سـعــد ومـــن بيـنـهـم جــريــر وأبــــو مـحـجــن الـثـقـفـي، فـلـمــا عــرفــوا أن الــمــرض حــــال دون مـبـاشــرة ســعــد لـلـقـتـال بـنـفـسـه قـبـلــوا عــــذره وتـحـاثــوا عــلــى الـسـمــع والـطـاعــة، وقــــال جــريــر: (أمــــا أنــــي بـايـعــت رســــول الله ? عــلــى أن أســمــع وأطــيــع لــمــن ولاه الله الأمــــر، وإن كــــان عــبــداً حـبـشـيـاً) .

ط – الفـيـلـة تـحـاصـر مـواقــع بـجـيـلـة

وفـــي الـيــوم الأول مـــن أيـــام القـادسـيـة وجـــه الـفــرس ثـلاثــة عـشــر فـيــلاً وفـــي روايـــة أخـــرى سـتــة عـشــر فـيــلاً إلـــى مـواقــع بجـيـلـة فـفـرقـت بـيــن الكـتـائـب وأذعـــرت الـخـيـل وكـــادت بجـيـلـة أن تـفـنـى عـــن بـكــرة أبـيـهـا بـعــد فـــرار خيـلـهـا ذعـــراً مـــن الفـيـلـة، ولـكــن الـرجـالـة (الـمـشـاة) مـنـهـا صـمــدوا فـــي مواقـعـهـم صـمــود الأبـطــال وأعـانـهـم عـلــى الـصـمـود تـــدارك سـعــد لـهــم بـبـنـي أســـد الـــذي هـاجـمـوا الفـيـلـة وحمـاتـهـا عنـيـفـاً بـقـيـادة طلـيـحـة الأســـدي فاستـطـاعـوا بمـعـاونـة ربـيـعـة بـقـيـادة الأشـعــث بـــن قـيــس بـعــد جــهــد جـهـيــد أن يــولــوا الـفـيـلـة والــقــوات الـفـارسـيـة الــتــي تـسـانـدهـا الأدبــــار .

وتـركت بــــجــــيــــلـــــة كـــــثــــــيــــــراً مـــــــــــــــــن الـــــشــــــهــــــداء فـــــــــــــــــي ســــــــاحـــــــــة الــــمــــعـــــركـــــة ولـــــــــكـــــــــن صــــــمــــــودهــــــا الــــــمــــــدهــــــش أتــــــــــــــــــاح لــلــمــســـلـــمـــيـــن تــــــــــــــــــدارك الــــــمــــــوقــــــف الــــخــــطـــــيـــــر الــــــــــــــــــذي كــــــــــــــــــان نـــتـــيـــجـــتـــهـــا هـــــــــجـــــــــوم فــــــيــــــلــــــة الـــــــــفـــــــــرس عـــــــــلـــــــــى قــــــواتــــــهــــــم.

وفـــــــــــــــــي لـــــيــــــلــــــة الــــــــيـــــــــوم الــــــــرابـــــــــع مـــــــــــــــــن أيـــــــــــــــــام الــــقــــادســــيـــــة (لـــــيــــــلــــــة الـــــهــــــريــــــر) حـــــمــــــلــــــت بــــجــــيــــلـــــة عــــــــلـــــــــى الــــــــقـــــــــوات الــــفــــارســــيـــــة مـــــــــــــــــع مـــــــــــــــــن حـــــمــــــلــــــت عــــلــــيــــهـــــا مـــــــــــــــــن الــــقــــبـــــائـــــل غـــــــــيـــــــــر مــــنــــتـــــظـــــرة أمــــــــــــــــــر ســـــــــعـــــــــد بـــالـــحــــمــــلــــة.

ي – سعد بن أبي وقاص يدعـو لبجيلـة وينشـد شعـر

فعذرها سعد قائلاً: (اللهم أغفر لهم وأنصرهم) ، فقضوا في تلك الليلة على عدد ضخم من الفرس، وفي بلاء بجيلة بقيادة جرير قال سعد:

وكان سعد في شعره هذا يرد على قول جرير:

أنا جرير كنيتي أبو عمرو*** قد نصر الله وسعد في القصر

ك – جرير يفتح خانقين وحلوان وقرميسين

وشهد جرير مع قومه معركة فتح (المدائن) عاصمة كسرى كما شهد معركة جولاء تحت رأية هاشم بن عبتة بن أبي وقاص الزهري فما استطاع المسلمون القضاء على القوات الفارسية في (جولاء) فضم هاشم إلى بجيلة خيلاً كثيفة وجعلهم بقيادة جرير وأبقاهم قوة ساترة في جولاء لتكون بين المسلمين والفرس فهاجم جرير خانقين وكان فيها فلول من الفرس فقتل بعضهم وفر الباقي ، وأمد سعد جريراً بنحو ثلاثة آلاف مقاتل وأمره أن يسير لفتح حلوان ، فلما كان بالقرب منها هرب (يزدجر) إلى (أصفهان) ففتح جرير حلوان صلحاً، ثم سار إلى (قرميسين) ففتحها صلحاً أيضاً، وبقى جرير والياً على حلوان حتى أمره عمار بن ياسر الي الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص، أن يتحرك مدداً لأبي موسى الأشعري في (خوزستان)، فغادرها جرير مخلفاً عليها عزره بن قيس البجلي وقد نزل حلوان قوم من ولد جرير فأعقابهم بها .

ل – معركة نهاوند ودور جرير فيها

وبرز اسم جرير في معركة (نهاوند) الحاسمة فكان من بين أشراف العرب وأبطالهم المعدودين الذين خاضوا تلك المعركة تحت لواء النعمان بن مقرن المزني، فأبلى جرير في هذه المعركة أعظم البلاء.

وكان عمر بن الخطاب قد كتب إلى النعمان بن مقرن: (إن أصبت فالأمير حذيفة بن اليمان، فإن أصيب فجرير ابن عبد الله البجلي، فإن أصيب فالمغيرة بن شعبة ثم الأشعث بن قيس) مما يدل على منزلته الرفيعة عند عمر بن الخطاب وفي رواية أن المغيرة بن شعبه حين كان والياً على الكوفة أرسل جريراً لفتح (همذان) فقاتل أهلها وأصيبت عينه بسهم فيها فقال (أحتسبتها عند الله الذي زين بها وجهي ونور لي ما شاء ثم سلبنيها في سبيله) ثم على مثل صلح نهاوند وغلب على أرضها قسراً .

م – نهاية المطاف

سكن جرير الكوفة وابتنى بها داراً في القسم المخصص منها لسكنى بجيلة( ) قوم جرير.

ولقد ولاه عثمان بن عفان رضي الله عنه (قرقيسياء)( ) وبقى عليها( ) حتى توفى عثمان ، وفي رواية أخرى أن عثمان ولاه (همذان) فبقى والياً عليها حتى استدعاه علي بن أبي طالب بعد منصرف علي من البصرة إلى الكوفة وفراغه من معركة الجمل، لذلك لم يشهد جرير تلك المعركة.

غادر جرير همذان بعد أخذ البيعة من أهلها لعلي بن أبي طالب فلما وصل الكوفة أرسله علي إلى معاوية بن أبي سفيان يدعوه إلى الدخول في طاعته وكتب معه كتاباً يعلم فيه باجتماع المهاجرين والأنصار على بيعته ويدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه المهاجرون والأنصار.

وانتهى جرير إلى معاوية فكلمه ووعظه وألح عليه في الكلام والوعظ، ولكن معاوية جعل يسمع منه ولا يقول له شيئاً وإنما يطاوله ويسرف في مطاولته ويدعو مع ذلك وجوه أهل الشام وقادة الجيش مظهراً مشورتهم فيما يطلب إليه علي بن أبي طالب ويعظم لهم قتل عثمان ويحرضهم على المطالبة بدمه.. وأخيراً عاد جرير إلى الكوفة ليخبر علياً خبر معاوية واجتماع الشام معه على قتاله.. فلم يرضى علي عن سفارة جرير، كما أن جماعة من أصحاب علي على رأسهم الأشتر النخعي أسمعوا جريراً بعض ما يكره فغضب جرير وارتحل بأهله إلى قرقيسياء معتزلاً الفريقين .

وفي معركة صفين بين علي ومعاوية، انقسمت القبائل العربية على نفسهان فكان مع الطرفين قسم من كل قبيلة عدا بجيلة، فقد كانت كلها مع علي بن أبي طالب ولم يشهد أحد هذه المعركة مع قوات معاوية( ) وهذا يثبت أن جرير اعتزل الطرفين ولم يلتحق بمعاوية كما يزعم بعض الرواة، وباعتزال جرير انتهت حياته العامة وافاه الأجل سنة إحدى وخمسين .

ن – جرير الإنسان

كان سيد قومه في الجاهلية وفي الإسلام قال النبي ? لما دخل عليه جرير: (إذا أتاكم كريم قوم فأكرمون) .

وقال عمر بن الخطاب: (ما زلت شريفاً في الجاهلية والإسلام) ( ) وكان مؤمناً حقاً، لم يبذل ولم يغير منذ آمن بالله ورسوله، وقد أخلص للدعوة مجاهداً وداعياً وسهر على مصالح رعيته حين أصبح والياً فلما نشب القتال بين المسلمين أيام الفتنة الكبرى لم يلطخ يده ولا ضميره بدنس بل سعى جاهداً لجمع كلمة المسلمين، فلما أخفق في مهمته ترك الدنيا وما فيها واعتزل الفتن منزوياً في عقر داره (قرقيسياء) وكان شاعراً خطيباً لسناً قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه من عند سعد بن أبي وقاص، فقال له: (كيف تركت سعداً في ولايته؟)، فقال: (تركته أكرم الناس مقدرة، وأحسنهم معذرة هو لهم كالأم البرة، يجمع لهم كما تجمع الذرة ، مع أنه ميمون الأثر، مرزوق الظفر أشد الناس عند البأس، وأحب قريش إلى الناس) . قال عمر: (فأخبرني عن حال الناس) فقال جرير: (هم كسهام الجعبة، ومنها القائم الرائش ، ومنها العضل الطائش، وابن أبي وقاص ثقافها يغمز عضلها ويقيم ميلها، والله أعلم بالسرائر يا عمر!) قال: (أخبرني عن إسلامهم)، قال: (يقيمون الصلاة لأوقاتها ويؤتون الطاعة لولاتها) فقال عمر (الحمد لله إذا كانت الصلاة أوتيت الزكاة وإذا كانت الطاعة كانت الجماعة) وجرير هو القائل: (الخرس خير من الخلابة، والبكم خير من البذاءة) .

وكان ذكياً محدثاً عالماً بأمور دينه فقيهاً: وروى مائة حديث عن رسول الله ? كما عده العلماء من أهل الفتيا البارزين .

وكان كيساً عاقلاً وجد عمر بن الخطاب في مجلسه رائحة في بعض جلسائه، حيث قال عمر: (وعزمت علي صاحب هذه الرائحة إلا قام فتوضأ!) فقال جرير: (علينا كلنا يا أمير المؤمنين فأعزم!) فقال عمر (عليكم كلكم عزمت) ثم قال (يا جرير! ما زلت سيداً في الجاهلية والإسلام) .

وكان آلفاً مألوفاً: أحبه النبي ? وأحبه أصحابه وكان علي بن أبي طالب يقول (جرير منا آل البيت) وبلغ مقدار حبه لقومه (بجيلة) أن حصل على وعد من الرسول ? أن يجمعهم له وكانوا أشتاتاً بين القبائل العربية، فاستنجز أبا بكر هذا الوعد إلا أن ظروفه لم تساعده على إنجازه، فطالب عمر بن الخطاب بإنجازه فجمعهم وسيرهم إلى العراق بأمرته القتال الفرس.

وكان يثق بنفسه ويعرف لها قدرها ولا يتخلى عن حق من حقوقها. أراد عمر بن الخطاب أن يؤمر عرفجة بن هرثمة البارقي على بجيلة ليسيرهم إلى العراق فغضب جرير وقال لبجيلة (كلموا أمير المؤمنين) فقالوا لعمر: (استعملت علينا رجلاً ليس منا!) فأرسل إلى عرفجة وقال له: (ما يقول هؤلاء) قال: (صدقوا يا أمير المؤمنين! لست منهم ولكني من الأزد كنا أصبنا في الجاهلية دماً من قومنا فلحقنا ببجيلة فبلغنا ببجيلة فبلغنا فيهم من السؤدد ما بلغك)، فقال عمر: (فأثبت على منزلتك فدافعهم كما يدافعونك) فقال: (لست فاعلاً ولا سائراً معهم) فأمر عمر جريراً على بجيلة وسار معهم إلى العراق . وكان كريماً شهماً إن شجاعاً وفياً جمع صفات العربي الأصيل وزاد عليها خلق المسلم، فلا عجب إن كان نموذجاً كاملاً للمؤمن المجاهد الصابر المحتسب الذي بذل غاية جهده لخدمة عقيدته وقومه في السلم والحرب ولا عجب أن يستحوذ على إعجاب الناس بمزاياه، فيقول فيه أحد الشعراء مردداً صدى إعجاب الناس بسجاياه الكريمة:

لولا جرير هلكت بجيلة ** نعم الفتى ونسب القبيلة

وقد كان جرير جميل الصورة ، قال عمر بن الخطاب عنه: (جرير يوسف هذه الأمة وهو سيد قومه) وكان طويل القامة يخضب بالصفرة أعور ذهبت عينه في (همذان).

س – جرير القائد

لمسنا بوضوح في مزايا جرير الشخصية بعض الصفات التي تؤهله لتولي قيادة الرجال في أخطر المواقف وأحرج الظروف لهو كريم النسب عقائدي شجاع مقدام ذكي، لذلك أمره الرسول القائد في حياته حين وجهه لتحطيم صنم (ذي الخلصة) هذا الواجب الذي لم يكن سهلاً في تلك الأيام وخاصة وأن جذور الشرك لم تكن قد اجتثت تماماً من اصولها، وإن المشركين كانوا يسترخصون أرواحهم وأموالهم في سبيل الذود عن أصنامهم لهذا لم يوجه الرسول ? لمثل هذه الواجبات غير الصفوة من أصحاب أمثال علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد وجرير، ولقد كانت له قابلية فائقة على إعطاء القرار السريع الصحيح، شجاعاً مقداماً صبوراً ذا إرادة قوية راسخة، يتحمل مسئولية كاملة بلا تردد بل كان حريصاً غاية الحرص على تحمل مسئوليته كاملة ولا يتهرب منها خوفاً وجزعاً، له نفسية لا تتبدل في حالتي النصر والاندحار وفي حالتي الرخاء والشدة عرف نفسيات رجاله وقابلياتهم ويثق بهم ويثقون به ويبادلهم حباً بحب وإخلاص بإخلاص، له شخصية نافذة وقابلية بدنية ممتازة ومارض ناصع مجيد.

ع – جرير في التاريخ

يذكر التاريخ في ناحيتين، عقيدته الراسخة وجهاده العظيم يذكر عقيدته التي لم تتبدل أبداً منذ إسلامه فقد ثبت على عقيدته منذ إسلامه شامخاً كالطود حين ارتد كثير من الناس واعتزل الفتن حيث اشترك فيها كثير من الناس وبقي في كل حياته مخلصاً لعقيدته لا يتزحزح عنها قيد أنملة طلباً لمغنم أو هرباً من مغرم، وبذلك كان النموذج الرائع للعقائدي الذي يحيا ويموت من أجل عقيدته.

ويذكر التاريخ له جهاده الفذ لأجل إعلاء كلمة الله ولا تزال آثار فتوحاته باقية في حلوان وخانقين وقرميسين وهمذان منذ الفتح الإسلامي قبل حوالي أربعة عشر قرناً حتى اليوم.

إن التاريخ لا ينسى جريراً وأمثاله من قادة الفتح ولكن هل يذكره العرب والمسلمون؟ رضي الله عن هذا الصحابي الجيل، القائد الفاتح المحدث الفقيه جرير بن عبد الله البجلي.

 

Facebook Twitter Google+ Pinterest Reddit StumbleUpon Linkedin Tumblr Google Bookmarks Email

عدد المقيّمين 0 وإجمالي التقييمات 0

1 2 3 4 5