اللياقة النفسية

اللياقة النفسية

 

اللياقة النفسية

عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» عجيبة غريبة هي النفس البشرية، ومبعث العجب والاستغراب فيها كثرة تعقيدات أحوالها، وتنوع صورها وأشكالها، وصعوبة التعامل معها وقيادتها والسيطرة عليها وضبطها، وسرعة تقلباتها، وحدة اضطرابها، وعلى الرغم من وجود قواسم مشتركة بين الحالة المزاجية للناس، إلا أن هذه الحالة في الجملة تكاد تكون متفردة متميزة بين هذا وذاك، فلكل حالته المزاجية، وطابعه النفسي الذي يميزه عن غيره، حتى في المحيط الأسري الواحد، لكل خصائصه وسماته، الأشقاء من أب وأم قلَّ أن تجد بينهم تماثلاً في الحالة النفسية، فلكل سماته التي يعرف بها عن سواه بين الإخوة الأشقاء، أحدهم لطيف حسن المعشر، والآخر عنيف صعب المراس، فسبحان من أو جد هذه الحالات ومايز بينها شكلا ومضمونا، وكأنها نتاج خلطة كيميائية موزونة المقادير متقنة الصنع.

ولقد تمخض عن تعقد النفس البشرية وتنوع صورها، أنماط مختلفة من التوافق والتواصل والترابط بين الناس، فئة متآخية متحابة، وأخرى متناحرة متدابرة، ولكل من الحالتين أسبابها ودواعيها الظاهرة والباطنة، العميقة والسطحية، وبحسب طبيعة البواعث والدواعي، تختلف الحالات من حيث كونها عابرة مؤقتة تبدو لأيام معدودة، ثم تزول حالة الكدر وتعود الأحوال إلى سابق عهدها، أم كونها متجذرة راسخة تتحكم في السلوك وتفسد العلاقة ولأمد طويل.

إن مما يحقق التآخي بين الناس والتآلف والتواد، ويبعث الشعور بالأنس والرضا والقبول، أن يجتهد الشخص في إبداء بسمة لطيفة نقية صافية تشرق على الوجه أثناء مصافحة الآخر والسلام عليه، وأن يستشعر كل من المصافح والمصافح حرارة الوجدان في كف يد الآخر، وأن يمسك كل الآخر بيده مشتاقا مرحبا سائلا مظهرا علامات السماحة والبشر والشوق، وأن يحرص كل من المتصافحين على أن يبقي يده في يد الآخر لا ينزعها منه يشعره بمدى الحفاوة والسعادة والفرح، وأن يتوج ذلك بالكلم الطيب، هذه مؤشرات الخلق الحسن الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم «إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم»، فحسن الخلق أمر أرشد إليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- ورغب فيه، وجعل له منزلة عظيمة لما له من قيمة ودور في تأليف النفوس وترابطها، في تراحمها وتواصلها.

أما ذاك الذي يقابل الناس بوجه عبوس كئيب مكفهر، وجه تعلوه قترة وقتامة، وإذا صافحهم صافح بأطراف أصابعه ترفعا وتأففا وتكبرا، يصافحهم بوجه جامد معرض مدبر، لا يسأل ولا يبدي أي صورة من صور المشاعر الإنسانية المعروفة المألوفة بين الناس عندما يقابل أحدهم الآخر، وهي مما ميز الله به بني البشر عن غيرهم من سائر المخلوقات، هذا الصنف من البشر حتما مكروه منكر، كل يبغضه ويأنف منه ويتجنب ملاقاته فضلا عن التواصل معه ولو عن بعد، هذا الصنف من البشر لا يمكن أن يتوافق معه أحد، بل تجده منعزلا منكفئا يعيش وحيدا في ظلمة ووهم، طغيان الكبر عليه، وهيمنة الخيلاء على مخيلته أبعدته عن الناس وصدته عنهم، وبالتالي ابتعد عنه الناس وصدوا، بل كرهوا ملاقاته والجلوس معه ومخالطته، حتى وإن بلغ مكانة عالية ومنزلة رفيعة اجتماعية كانت أو اقتصادية، كل هذا لا يساوي عند الناس جناح بعوضة، بل أثبتت الأيام أن المكانة والمنزلة سرعان ما يزول بريقهما، ويتلاشى وهجهما بمجرد التنحي أو الإقصاء، ولا يبقى للمرء إلا الأثر الطيب الذي تركه في نفوس الآخرين من حسن تعامل وسمو أخلاق.

الكبر يورث البغض والكراهية والصد والنفور، بل إنه يورث الهم والضيق، وعجبا من المتكبر كيف يتحمل ذاته؟ أما علم أن:

الكبر تبغضه الكرام وكل من

يبدي تواضعه يحب ويحمد

خير الدقيق من المناخل نازل

وأخسه وهي النخالة تصعد

إن التواضع وحسن الخلق، من أسباب تعارف النفوس واإتلافها، والكبر والفظاظة من أسباب تناكر النفوس واختلافهم، الأسوياء نفسيا فقط يختارون التآلف والتواد، أليس كذلك؟

 

Facebook Twitter Google+ Pinterest Reddit StumbleUpon Linkedin Tumblr Google Bookmarks Email

عدد المقيّمين 0 وإجمالي التقييمات 0

1 2 3 4 5