خديعة المثقف

خديعة المثقف

 

خديعة المثقف

كتب (جوليان بندا) في عشرينيات القرن الماضي مقالاً بعنوان: (خيانة المثقفين)، طوّره فيما بعد إلى كتاب يحمل نفس العنوان، والذي يهمني في الأمر تلك الأسطر التي تحدث عنها في نظرته للمثقفين في عصره قائلاً: (إن المثقفين هم عصبة صغيرة من الملوك - الفلاسفة، يتحلون بالموهبة الاستثنائية وبالحسّ الأخلاقي الفذ، ويشكلون ضمير البشرية) وقال في جزء آخر من نفس المقالة: (بأن المثقفين الحقيقيين هم الذين لا يهدف نشاطهم أساساً إلى تحقيق أغراضٍ عملية، وكل الذين ينشدون السعادة في ممارسة فن ما أو علم ما، أو في تأملات ميتافيزيقية، أي باختصار، في التحلي بمزايا غير مادية ومن هنا يقولون بطريقة ما: (مملكتي ليست من هذا العالم) بينما نجد في الجانب الآخر السجين الإيطالي المناضل (أنطونيو غرامشي) الذي سجنه موسوليني أحد عشر عاماً (1926-1937) يضع مثالاً آخر أو اعتباراً آخر مغايراً للمثقف بأنه يرى أن الفرد المؤثر في المجتمع هو المثقف الحقيقي أو كما يقول: بأنه يرى بائع الألبان مثقفاً حقيقياً على حد تعبيره.

فالسؤالان اللذان يضعان نفسيهما الآن هما: من هو المثقف؟؟

وما الدور الحقيقي للمثقف؟؟

أعترف بأن الإجابة عن هذين السؤالين ليست باليسيرة أبداً وخصوصاً أننا إذا ما عدنا إلى المأزق اللغوي فيجب علينا أن نجد تعريفاً منطقياً للكلمة الأصلية ألا وهي الثقافة.

في البدء سنجد عقبة الجذر الموجودة في المعجم والتي تقول بأن الكلمة أعلاها تعود إلى الجذر: ثَقَفَ ، أو ثَقِفَ ولم يرد أن الأوائل استخدموا هذه المفردة بصيغتها الحالية حتى وإن كانت استخدامات أخرى كتثقيف الرمح أو ثقْف العدو فإنني معني بقضية أخرى غير المسألة اللغوية.

وهنا ما يجعلنا أيضا نتساءل عن أصالة هذه المفردة من عدم أصالتها، كما أننا يجب أن نستعرض وجهات النظر التراثية في المرجعية العربية وفي مرجعية الآخر، فقد نجد على سبيل المثال لا الحصر الجاحظ في تعريفه للثقافة:

(بأنها الأخذ من كل علم بطرف) أو كما يقول آخر: (معرفة شيء من كل شيء)

فنجد أن معنى ثقافة ارتبط في التفكير العربي بالمعرفة وأصبح معيار الثقافة بالكم الذي أعرفه لا بنوعية ما أعرف على سبيل النقيض مثلاً.

أما في مرجعية الآخر فنجد على سبيل المثال تعريفاً وهو الأشهر تقريباً لتايلور والذي يقول: (الثقافة هي ذلك المركب الكلي الذي يشتمل على المعرفة والمعتقد والفن والأدب والأخلاق والقانون والعرف والقدرات والعادات الأخرى، التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع).

لا أخفيكم أنني أكاد أجد في هذا التعريف نوعاً من العمومية أو الشمولية لكل التعاريف التي اطلعت عليها على الأقل رغم أني لن أتجاهل تلك الأصوات التي نادت بأنه قد نستطيع أن نأخذ على تايلور إهماله حركية المشهد الثقافي وتجاهله علاقة الثقافة بالمجتمع، فحتى وإن كنت أهرب من التعميم في أغلب الأوقات إلا أنني أرى أنه في قول تايلور نوع من الإحاطة بوصفه أو إعادته لفكرة الثقافة إلى مهارة مكتسبة يستطيع أي أحد اكتسابها فحتى مالك بن نبي في كتابه (مشكلة الثقافة) نجد أنه يتقاطع مع تايلور باعتبار الثقافة مهارة مكتسبة بقوله:

(مجموعة الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي تؤثر في الفرد منذ ولادته، وتصبح لا شعورياً العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه)، وقد نجد في جانبٍ آخر من يرفض فكرة أن الثقافة هي سلوك مكتسب وأنها فعلٌ إبداعي وابتكارٌ فني وجمالي، ويجب علينا أن نحترم كل وجهات النظر ولكن كل هذا يجعلنا نذهب إلى، أو نسأل من هو المثقف؟؟

إن الكائن المدعو بالمثقف في التاريخ الإنساني له مفاهيم كثيرة، بدءاً من التعاريف الكلاسيكية والتي كانت ترى الحكيم مثقفاً، ومروراً باقتران المثقف بالعَالـِم في حقبة من الحقبات وانتهاءً بتلك التي وصفت المثقف بالحالة الغامضة أو اللغز العصيِّ على الحل.

إن فكرة المثقف في الأوساط الأوربية في فترة النهضة الأوربية وتحديداً في القرنين الثامن العاشر والتاسع عشر كانت ترى الثقافة شيئاً والحضارة شيئاً آخر مما أدى إلى وضع المثقف أو حصره في سياق لا يستطيع الخروج منه ولأنها كانت ترى بأن النهضة في المجالات التقنية والعمرانية حضارةٌ لا علاقة لها بالفعل الثقافي الموسوم بالعلاقة المعرفية بالديانات والاعتقادات والأخلاق والفنون والآداب، متجاهلة أو رافضة إمكانية تداخل الفعل الثقافي والفعل الحضاري.

أعترف بأنه لا يمكن وضع حدود لإمكانية تعريف المثقف أو الثقافة

ولكن ما يهمني كآخر نقطة في موضوعي هذا هو مثقفنا الحبيب..!

أين هو من كل هذا ؟؟

عن استقراء للواقع أجد بأن المثقف لدينا رجعيٌ جداً قياساً لتصنيف الأوساط الأوربية في فترة النهضة، فالمثقف لدينا اليوم هو من يستمع لفيروز ومن يجيد كتابة الشعر ومن يسأل الأسئلة الماورائية ويكثر من اللاءات اللا يقينية (جادةً كانت في طرح السؤال أم متخذة ذلك ضرباً من العبث).

أعلم بأن الشك والقلق مهم جداً في الفعل الثقافي أو الفعل الإنساني كممارسة للإنسانية ولكن من كثرة ما أراه وأقرؤه هنا وهناك أكاد أقول: ماذا لو تخلينا عن لفظة مثقف في مجتمعنا، ماذا سيحدث؟

ماذا لو انفتحت الأرض وابتلعت كل من يزعم لدينا بأنه مثقف؟؟

ما الذي سيتغير، وما هو الميزان الذي سيصاب بخلل لدينا؟؟

إن وضع المثقف لدينا وللأسف الشديد يكاد يكون مبهماً بشكل كبير، فالمثقف لدينا إما أن يجلس في أبراجه العاجية بعيداً عن واقعه وكأنه لا يشكل شيئاً فيه أو أن يُهَاجِم كمحاربْ.

أعترف بأنهُ لا ظهور للثقافة بدون مثقف، ولكن من يخرج الثقافة من سكونها إلى حركتها غير هذا الكائن؟ الذي لا أعرف كيف يكون إلى الآن..!

وأعترف بأنه يمارس هذا الفعل كممارسة ذاتية ولا يمارسه كفعل اجتماعي.

كما لا أهمل بعض الجهود المتواضعة المبذولة في أماكن كثيرة لتحريك الفعل الثقافي ونقله من فعل السكون إلى الديناميكية، ولكننا بحاجة إلى صوت أعلى كي نعرف إلى أين تسير السفينة، وأن نحدق في البوصلة جيداً حتى لا نغرق.

 

Facebook Twitter Google+ Pinterest Reddit StumbleUpon Linkedin Tumblr Google Bookmarks Email

عدد المقيّمين 0 وإجمالي التقييمات 0

1 2 3 4 5