البلاغة النبوية
- مما أعجبتني ( نبطي عرضه قلطه)
- 18/8/2011
- 1888
- د. عبد اللطيف القرني- الاقتصادايه
إن أسلوب البلاغة النبوية يمتاز بأنه ليس له مثيل في كلام الفصحاء، وهو معدود من أعالي ضروب الفصاحة، وهو على مقدار من الاعتبار؛ كلها تجعل البليغ يقف عندها، ويخصها بالإعجاب، لأن كلامه ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ في باب التمكين لا يعدله شيء من كلام الفصحاء، فلا تلمح في جهة من جهاته ثلمة ممكن أن يقتحم عليه فيها بالرأي أو النقد، بل ترى التماسك العجيب في الألفاظ والمعنى، وذكر الرافعي في إعجاز القرآن والبلاغة النبوية أهم مميزات كلامه ـــ صلى الله عليه وسلم ــــ وأفاد بأن مبنى ذلك على ثلاثة أسس بلاغية هي: الخلوص، والقصد، والاستيفاء.
1ـ أما الأول فهو في اللغة كيف يخلص إلى المعنى بطريقة بديعة، حيث لم يكن في العرب ولن يكون فيمن بعدهم أبد الدهر من ينفذ في اللغة وأسرارها وضعاً وتركيباً، ويستعبد اللفظ الحر، ويحيط بالعتيق من الكلام، ويبلغ من ذلك إلى الصميم، على ما كان من شأنه ـــ صلى الله عليه وسلم، ويقول الرافعي: ولا نعرف في الناس من يتهيأ له الأسلوب العصبي الجامع المجتمع على توثق السرد وكمال الملاءمة كما تراه في الكلام النبوي، وما من فصيح أو بليغ إلا وهو في إحدى هاتين المنزلتين دون ما يكون في الأخرى على ما يلحقه من النقص فيهما جميعاً إذا تصفحت وجوه كلامه وضروب الفصاحة فيه، واعتبرت ذلك بما سلف، وأبلغ الناس من وفق أن يكون في المنزلة الوسطى بين منزلتيه ـــ صلى الله عليه وسلم.
2ـ وأما القصد والإيجاز والاقتصار على ما هو من طبيعة المعنى في ألفاظه ومن طبيعة الألفاظ في معانيها. ومن طبيعة النفس في حظها من الكلام من جهتين (اللفظية والمعنوية) ـــ فذلك مما امتازت به البلاغة النبوية حتى كأن الكلام لا يعدو فيها حركة النفس، وكأن الجملة تخلق في منطقه ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ خلقاً سوياً، وهذا عجيب حتى ما يمكن أن يعطيه امرؤ حظه من التأمل إلا أعطاه حظ نفسه من العجب.
3ـ وهو الاستيفاء، الذي يخرج به الكلام ــــ على حذف فضوله وإحكامه مبسوط المعنى بأجزائه ليس فيها اضطراب ولا إحالة حتى كأن تلك الألفاظ القليلة إنما ركبت تركيباً على وجه تقتضيه طبيعة المعنى في نفسه، وطبيعته في النفس، فمتى وعاها السامع واستوعبها القارئ، تمثل المعنى وأتمه في نفسه، وبحسب ذلك التركيب، فوقع إليه تاماً مبسوط الأجزاء، وأصاب هو من الكلام معنى يسري في النفس في انسجام تام.
وهذه القدرة العجيبة على إيقاع الكلام في موضعه بما يتواءم مع المعنى دون زيادة أو نقصان، قلما يستحكم لامرئ إلا بتأييد من الله وتمكين من اليقين والحجة، فهو على حقيقته مما لا يتحصل عليه بالدربة والمزاولة إلا شيئاً يسيراً، ولا يمكن أن تجعله المزاولة فيمن ليس من أهله أن يكون أهلاً لذلك بمجرد التدريب، ولذلك قال أفصح العرب ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ ''أعطيت جوامع الكلم'' وفي رواية ''أوتيت''، وكان يتحدث في ذلك بنعمة الله عليه، فما هو اكتساب ولا تمرين، ولا هو أثر من أثرهما في التفكير والاعتبار، ولا هو غاية من غايات هذين في الصنعة والوضع، إنما هو (إعطاء وإيتاء) فمن لم يعط لم يأخذ، ومن لم يأخذ لم يكن له ذلك.
ولاجتماع تلك الثلاثة في كلامه ـــ صلى الله عليه وسلم ــــ وبناء بعضها على بعض، سلم هذا الكلام العظيم من التعقيد والخطل والحشو، وسلمت وجوهه من الاستعانة بما لا حقيقة له من أصول البلاغة.
ولذلك السبب نجد البلاغة النبوية بالكلام الجامع هي في أعالي حكم البلاغة، ونضرب للقارئ الكريم بعض الأمثلة النبوية من كلامه ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ كقوله: (إنما الأعمال بالنيات)، (الدين النصيحة)، (الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات)، (وقوله في معنى الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، (المرء مع من أحب)، (الصبر عند الصدمة الأولى)، وقوله لما سئل عن البحر (هو الطهور ماؤه الحل ميتته)... إلى ما لا يحصيه العد من كلامه ـــ صلى الله عليه وسلم، ولو ذهبنا نشرح كل حديث لكتبنا عشرات الصفات، وهذا الضرب هو الذي عناه أكثم بن صيفي حكيم العرب في تعريف البلاغة، إذ عرفها بأنها: دنو المأخذ، وقرع الحجة، وقليل من كثير، وهي صفات متى أصابها المتكلم وأتقنها حاز قصب السبق في البلاغة.
إن كثيرا من الدراسات اعتنت بالقرآن الكريم من حيث جانب البلاغة وأهملت جانب السنة النبوية والتي هي وحي إلهي أيضاً لا ينبغي إهماله وصدق الله إذ يقول: ''وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى''.
أسأل الله أن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام.