المنكر.. ولغة الحديث عنه

المنكر.. ولغة الحديث عنه

 

المنكر.. ولغة الحديث عنه

مجتمعنا كغيره من مجتمعات الإسلام على مرّ العصور، فيه المعروف، وفيه المنكر، يتقلب الإنسان يوميا بين هذا وذاك، والموفق منا من غلبت حسناته سيئاته، والفائز منا من رجحت كفة خيراته على نزواته، تلك هي الرؤية الشرعية التي جاءت بها نصوص الإسلام، وتضافرت عليها الدلائل، ولا أحسب في وسع امرئ إلا أن يُسلّم بها، ويُقرّ المتحدث عنها، لقد جاء في الحديث القدسي المشهور أن الله - تعالى - قال: "الحسنة بعشر أمثالها أو أزيد، والسيئة واحدة أو أغفرها، ولو لقيتني بقُراب الأرض خطايا ما لم تشرك بي شيئا لقيتك بقرابها مغفرة" قال: وقراب الأرض ملء الأرض إنّ هذا الحديث يتكلم - إن صح قولي - عن إستراتيجية الدين الإسلامي، إنها إستراتيجية، تقوم على التآلف والتأليف، إستراتيجية تُعطي الإنسان قيمة أكبر من المنكر، إستراتيجية تدعو إلى التفاؤل، إستراتيجية تحتفي بالإنسان، وتحسن الظن به، ولا تختصره في منكر - مهما بلغ من الخطورة - إنها إستراتيجية شعارها الرحمة، ودثارها العفو والتغاضي، إنها إستراتيجية الحدب على الإنسان، والأخذ بيده، مع كثرة موبقاته وشنعاته، وما ذا بغريب، فالإسلام دين خالق الإنسان، والعارف به، والعالم بضعفه وجهله وسرفه، تلك هي فلسفة الإسلام وحكمته في التعامل مع صاحب المنكر، ويبقى السؤال الملح الآن: كيف هي إذن حكمة المسلم اليوم؟ أين نحن من هذه الإستراتيجية؟ أين المسلم الذي يتطلّب الامتثال في القضايا الجزئية من هذه القضايا الإستراتيجية والفلسفية في التعامل مع أصحاب المعاصي؟

إنّ لهذه الإستراتيجية نموذجا حيا، لن يملّ المسلمون من تكرير الحديث عنه، وتجديد ذكرياته، إنه محمد بن عبدالله - عليه الصلاة والسلام - فقد روى البخاري عن عُمَرَ بن الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلًا على عَهْدِ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان اسْمُهُ عَبْدَاللَّه، وكان يُلَقَّبُ حِمَارًا، وكان يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جَلَدَهُ في الشَّرَابِ فأُتي بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ فقال رَجُلٌ من الْقَوْمِ: اللهم الْعَنْهُ ما أَكْثَرَ ما يُؤْتَى بِهِ. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم:" لَا تَلْعَنُوهُ، فَوَاللَّهِ ما عَلِمْتُ إلا أنه يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ" وفي السنن الكبرى:" فقال رسول الله:"لا تقولوا هكذا لا تعينوا عليه الشيطان؛ ولكن قولوا: رحمك الله" ما أكثر الفرق بيننا وبينه اليوم!

تلك هي - والله - الروح الإصلاحية العلية، التي تبلغ بنظرتها البعيدة الآفاق، وتشرف بها على السهول والوهاد، إنها الروح التي تؤثر الاجتماع والألفة، وترى فيهما خير حائل بين المرء ومعصيته، ما أقربنا إلى هذه القدوة وأبعدنا عنها، قربنا من كلامه، فقرأناه ليلا ونهارا، وبعدنا عن فعله وسلوكه، فلم نقتد بروحه الرضية، ونفسه الرحوم، أين هذه المعاني عني وعنك اليوم؟ يُبتلى ابني وابنك بأمور تصغر الخمر وشربها؛ لكن نفوسنا تمتلئ غضبا، وتتميّز غيظا، فنذر أولادنا لرياح الحياة الشرسة، المنبعثة من هنا وهناك، لمنكر واقعوه، أو أطالوا المكث فيه، وتخيب ظنوننا، كنا نظن أن الصرامة والعنف سيُرجعه إلينا؛ لكن الحياة وظروفها قالت لنا غير ذلك، لقد ركبنا دربا حصدنا في نهايته شيئا ما كنّا نخال أنفسنا سنحصده، فهل يُقبل مني ومنك أن نركض في دروب تعود علينا بخلاف ما كنا ننتظره ونترقبه؟

وتواردت تلك الحكمة في ذهنه، وحديث هذا الصحابي - رضي الله عنه - وأنا أستمع إلى حديث أحد الإخوان عن قيادة المرأة للسيارة، فإذا به يخرج من نقل الرأي فيها إلى الحديث عن الداعي إليها، والمرتكب لها، والقائل بجوازها، وينسج لهم قمصانا لغوية، توحي لسامعه أنّ صاحب المنكر غدا مُنكرا، فالمرتكب لقيادة السيارة من النساء فاجرة وفاسقة، وهي من أهل الشر، حينها جلست أقارن بين شرب الخمر، وهو المنكر المنصوص عليه في القرآن الكريم والسنة النبوية، وبين قيادة المرأة التي لم يرد فيها نص، وأضحى فيها عندنا رأيان فقهيان مشهوران، فشعرت أنّ هذا الرجل قد تجاوز الحدّ، فها هو القدوة يقول لرجل من المسلمين كان يكثر إتيان الخمر ما قاله، فما بال هذا الداعية يُجرد صاحب المنكر في رأيه من كل خير، ويرسم له صورة معجونة بماء الشر؟ ما بال هذا الداعية يستنجد بذم صاحب فعل مختلف حوله في تخويف الناس منه؟ ما بال صاحب المنكر عنده أصبح وسيلة من وسائل تبشيعه، وتكريه الناس به؟ يقع هذا من الداعية، وهو الذي يقرر نظريا أنّ الكفر غير الكافر، وأنّ المعصية غير العاصي، فالحكم على ممارسة بالكفر لا يعني مطلقا أنّ فاعلها كافر، والحكم على شيء بالمعصية لا يعني مطلقا أنّ صاحبها فاسق وفاجر، وإلا فقد أضحينا أقرب ما نكون إلى وعي الوعيدية وفهمها وفقهها، ونحن الذين ما فتئنا نُحارب هذا الفهم والفقه.

إن التشدد اللغوي في مدافعة المنكرات يزيدها، ولا ينقصها، إنّ من يرسم صورة سلبية لمرتكب هذا المنكر أو ذاك، يزرع في نفس المرتكب أنه شيطان مريد، ويزرع في نفوس الناس هذا المعنى، وذا يقود الأول إلى القنوط واليأس، فيبعد به عن فكرة التراجع، وهو المعنى الذي أشار إليه القدوة حين قال: "لا تعينوا عليه الشيطان"، ويقود الآخر - إن كان في دينه خفة - إلى استغلال حال هذا، فيترصد له في زوايا الحياة، وسيظفر به، ما دام كثير من الناس ينظرون إليه نظرة الريبة والشك، لقد أعانت النظرة التي حملتها اللغة إلى الذهن الجمعي عن صاحب المنكر عندنا على تكثيره وتناميه، وليس تقليله والحد منه، فهل كان هذا ما نقصده، ويقصده أخونا الداعية؟

وتواردت تلك الإستراتيجية الإسلامية مرة أخرى، وأنا أسمع لأخ آخر، يُسائل أختا، كانت من اللاتي قدن السيارات، يُسائلها قائلا: أتعرضتِ لتحرش؟ لقد نسي هذا أنّ التحرش له أسباب كثيرة؛ لكنّ منها تلك الألبسة اللغوية التي يُروّجها بعضنا عن قائدات السيارات، إنّ الداعية - في غفلة منه - يمنح الفرص لمن يريد التحرش بالنساء حين يقول: إنّ من تقود السيارة فاجرة وفاسقة، إن هذه العبوة اللغوية، تنفجر في رأس سامعها الذي خفّ دينه، فيعمد إلى ما خاف منه هذا الداعية وذاك، فيحمل الداعية بتشدده اللغوي تجاه صاحب المنكر شيئا من وزر التحرش، هكذا تضحي اللغة التي بها يُحارب الداعية المنكر معينة على زراعته، وفشوه في المجتمع.

إنّ التقبيح اللغوي لصاحب المنكر في أي مظهر كان، في قيادة السيارة كان أو لبس العباءة أو ...، يخلق صورة ذهنية عنه، صورة تجعل ضعيف النفس يرقب من النساء صواحب تلك المظاهر، ويجهد في التحرش بهن، فتكون اللغة التي أراد من ورائها الداعية شيئا، تحقق شيئا لم يخطر على باله، فيبوء بجزء من جريرة هذا المتحرش، وهو الذي رام إصلاح المجتمع وإنقاذ ذويه.

  • كلية اللغة العربية - جامعة الإمام
Facebook Twitter Google+ Pinterest Reddit StumbleUpon Linkedin Tumblr Google Bookmarks Email

عدد المقيّمين 0 وإجمالي التقييمات 0

1 2 3 4 5