لماذا انفرد الدور السياسي السعودي في المجال العربي؟

لماذا انفرد الدور السياسي السعودي في المجال العربي؟

 

لماذا انفرد الدور السياسي السعودي في المجال العربي؟

التطورات العربية الراهنة تنعكس على مفهوم "الدور السياسي" في المنطقة، وتلقي بظلالها المباشرة في ظل التحولات الراهنة، التي أتت على رأسين أساسيين من رؤوس مثلث القرار العربي، التي ظلت تحكم ميزان التأثير السياسي في المنطقة، وفي ظل انهيار الدور المصري ومعه السوري لأسباب في جوهرها التنمية ومحاربة الفساد، يبقى في المنطقة دور سياسي فاعل وضامن وحيد للاستقرار في المنطقة، وهو الدور السعودي، ليس لقوته الاقتصادية أو ثقل السعودية الأخلاقي إسلاميًا - أرض الحرمين - وليس لطبيعة الموقع الجيوسياسي، فالشواهد في سياق هذا الموضوع كثيرة.

تقدمت السعودية لأسباب: أولها لأنها استطاعت أن تنجز دورتها التاريخية، وتقدمت في مجال الرعاية الاجتماعية، وتفوقت في تنوع مجالات المعرفة التي تقدم جيل الشباب للناس - حملات ابتعاث علمي كبرى - ومجتمعها الأكثر انسجاما من الناحية الثقافية، ولم ترَ في طفرة الاقتصاد العالمي قبل سنوات فرصة للتطاول بالبنيان، بل وضعت بتوجيهات الملك عبد الله بن عبد العزيز الثروة في خدمة المجتمع والتنمية، وأرست قواعد برنامج ابتعاث علمي عالمي، وفيها توسع دور الأندية الأدبية التي تناقش كل أفكار الإصلاح، وبنى أضخم مشروع معرفي في المنطقة وهو جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية. ليؤسس لمستقبل دولة المعرفة فالـ(معرفة قوة) كما يقول ميشيل فوكو، فالقوة والمعرفة تتضمن إحداهما الأخرى بالضرورة، وكل منهما تتطلب الأخرى وتؤدي إليها.

في الشكل المعاكس، وضعت الدول ذات الأدوار التاريخية في المنطقة - سورية ومصر - وهي - مع الأسف - استمدت شرعيتها من الوعود التقدمية، وضعت المعرفة في خدمة السلطة والحزب الواحد، والجامعات ابتليت بعملاء الأجهزة الأمنية، والمنتديات الثقافية أخذت على عاتقها التغني بأعمال رموز الأحزاب، ما حوَّل دور الثقافة من التنوير إلى واجب خلق طبقة من المنافقين.

أسست السعودية لتعددية علاقة القوة، الدين والمال والمعرفة وبناء الفرد... إلخ، ومع ذلك حافظت على عنصر المبادرة في السياسية العربية، فكانت السباقة في تقديم إجماع عربي على السلام عام 2002، فيما سمي لاحقا بالمبادرة العربية التي غدت سقفا للتفاوض العربي كله، وكذلك في مسألة المصالحة الفلسطينية التي اهتدى إليها الأشقاء بعد حين، وكانت الراغبة في دفع سورية لمصالحة مع القوى اللبنانية وطي ملف الخلافات، وهو ما تجلى في الزيارة التي اصطحب فيها الملك عبد الله بن عبد العزيز الرئيس السوري للبنان، وكانت السباقة في علاج ضحايا الرصاص المنهمر في غزة. وكثير من الأدوار والمواقف التي لا تحصى في هذا الباب.

الدور السعودي لا يستمد قوته من حضوره العالمي فحسب، أو من علاقاته الإقليمية والعالمية، إنما ثمة اعتبارات كثيرة تجعله مرشحا للاستمرار والتأثير في المنطقة، لأسباب عديدة، أولها أن الدولة السعودية تكاد تكون الوحيدة التي تمثل مفهوم الكتلة التاريخية بالمفهوم الغرامشي بالنسبة للمنطقة، وهي اليوم تحاول جادة خلق التوازن والتنمية في المناطق المحيطة بها كافة، لا بل قد يتجاوز دورها المحيط الإقليمي إلى مناطق أبعد.

وبما أن الواقع العربي يشهد ولادات جديدة، ستقود إلى بنيات اقتصادية واجتماعية وفكرية لما بعد ما سمي الربيع العربي، فإن الدور السعودي يجد تعبيره وحضوره في محاولة عقلنة النخبة الجديدة، وإنقاذها من المسير نحو مسارات ثأرية تجهز على بنى ومؤسسات الدول التي تحدث فيها التغيرات، وبما يحول دون انتشار روح الكراهية التي لن تكون خطرا على الأنظمة السياسية فقط، بل على الهوية الثقافية والسياسية ومفهوم الأمن العربي، والحفاظ على الكيان العربي من التمزيق أو البلقنة أو خيار إمارات الصومال. ولعل قيادية الدور السعودي سياسيا وإعلاميا وثقافيا ناجمة عن أصالته وعدم اعتماده على بناءات أيديولوجية مزاحمة كما في العراق سابقا وسورية ومصر وليبيا لاحقا.

وما يجب التنبيه إليه عند الحديث عن الدور السعودي هو أن حركة التغيير في المجتمع العربي الراهن لا يمكن أن تضمن لنفسها أسباب النجاح، وهي أسباب ذاتية داخلية، وهي الأساس، ذلك أن خيارات التغيير الذي أنجز في بعض الدول وفق النموذجين التونسي والمصري، وما يجري في سورية حاليا واليمن يكمن خطره في تميزه، إذا إنه نتيجة عمليات شعبوية تغير بلا أطر سياسية أو فكرية مسبقة.

وفي ظل انعدام مثل هذه الأطر تسود الروح الفردية، وتغيب هنا هواجس الأوطان والهويات الجامعة لمصلحة مجموعات تريد كسبا سياسيا سريعا مباشرا، ثم بموازاة كل ذلك يأتي دور الاقتصاد، فالتغيير الذي حصل سيكشف عن فقر أكبر مما هو موجود في ظل الأنظمة التي كانت توزع الريع على مواطنيها من المساعدات، الذين قاموا بالتغيير لن يتفهموا فكرة الانتظار لنحو عقدين حتى تستعيد تلك الدول عافيتها وتتحول إلى دول إنتاجية مستقلة عن الدعم الغربي أو العربي.

ومشكلة التغيير الذي حصل في الواقع العربي، وهو على أهميته، إلا أنه لم يأخذ في الحسبان الكامل جميع مكوناته، "العصرية" منها و"التقليدية"، النخب منه وعموم الناس، الأقليات منه والأغلبيات، صفوف العمال وصفوف الطلاب، وقبل ذلك وبعده صفوف المساجد وصفوف المصلين.

غياب الأدوار الأخرى المصري والسوري، هو نتيجة لمسارات وتحولات، فالدور السوري ارتهن إلى حد بعيد لإيران، ورأى أن مصلحته ربما تكون في الأساس بالتحالف معها، ولا سيما فيما يخص الملف اللبناني الذي كانت تلتقي في إرادتين: الإيرانية والسورية، وكان الملف طوع اليد، وفيه كانت الرغبة مسكونة بين الطرفين بالعمل على الحفاظ على وضع مضطرب لبنانيا، ليساعدهما على الاحتفاظ بالملف اللبناني كورقة مضادة في التعامل مع الضغوط الأمريكية، إضافة إلى التطلعات الإيرانية في مد نفوذها الأيديولوجي هناك، وكانت سورية راغبة في الإمساك بالورقة اللبنانية؛ لأن دمشق ترى في الورقة اللبنانية بوابة الحياة أو التغيير والتراجع، فعمليا الدور السوري متجسد في قدرته على ضبط المؤشر السياسي في لبنان، لكن حال حدوث متغيرات في سورية فإن هذا الأمر سيكون حدثا جللا بالنسبة لإيران ولحزب الله وولادة جديدة للبنان.

ورغم أن الدور المصري ما بعد الثورة يلهث للبقاء حيويا في بعض الملفات من باب إثبات الوجود، إلا أنه سيكون مثقلا بالقادم من الأيام؛ لأن الانقسام الاجتماعي ما بعد الثورة، وعبء استعادة الأمن يجعلان الدور المصري يزاد هشاشة، والتحلل السريع من الملف الفلسطيني خير دليل.

ولا شك أن التراجع المصري على الصعيد الإقليمي يعود لاختلالات وتحولات داخلية سيترك فراغا واضحا.

في ظل هذا الواقع العربي، يمكن فهم الخصائص المستقلة لصعود الدور السياسي السعودي في المنطقة المتزامن مع أوضاع شديدة التعقيد، لكنه يتدخل فيما يبدو بصورة ورؤية واضحة في الملفات الراهنة بشقيْها القديم المزمن ويملك القدرة على "تقدير الموقف" للدور السياسي الجديد الذي يفرضه الواقع العربي، كما أن الرياض تلعب دور الضابط والمراقب والحارس لاستقرار دول المنطقة، وبخاصة دول الخليج العربي، وأيضا صلابة الدور السعودي واستقرار السعودية السياسي أصبح من أولويات الأمن الوطني لدول عربية عديدة.

 

Facebook Twitter Google+ Pinterest Reddit StumbleUpon Linkedin Tumblr Google Bookmarks Email

عدد المقيّمين 0 وإجمالي التقييمات 0

1 2 3 4 5