الصامت في القروب
- العادات والتقاليد الثقافه والتراث
- 4/4/2020
- 1537
- منقول للفائده
الصامت في القروب
رأيتُ الكلام يزينُ الفتى
والصَّمتُ خير لمن قد صَمَتْ
فكم من حروفٍ تجرُّ الحتوفَ
ومن ناطقٍ ودّ أن لو سَكَتْ .
الصمت شعار العقلاء في كل زمان ومكان تأسياً بقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فليقل خيراً أو ليصمت) ؛ فقد ربحوا والله . . في حين خسر بعض الآخرون بعضاً من حسناتهم ومروءاتهم وبعضاً من أصحابهم ، فهنيئاً ثم هنيئاً لهم كيف استطاعوا الصمتْ في عصر الثرثرة ، وفي ظل هذه البرامج التواصلية وهي بين أيديهم صباحَ مساء ؛ والمحادثات من كل حدبٍ وصوبْ ، وما نراه لا جديد فيه وإنما أغلبه من (النسخ واللصق) ، ليجد هذا الصامت العاقل حرباً شعواء لا هوادة فيها من بعض أقرانه المضافين ـ بل من الكثير ـ لإجباره على المشاركة ولو بكلمة أو بالمكرر ولو بالأخبار القديمة وإلاّ الطرد مصيره ؛ ونجد هذا المضاف قد أضيف دونَ رغبة منه ، ولم يبدِ موافقة ، بل اكتفى بالصمت حياءً ممن أضافه دون إحراج .
وليعلم الجميع أن الصامتون من خير أهل الأرض . . هم من يصنعون التغيير ويُضيفون كثيراً في عصر الثرثرة . . وهم الفئة النادرة التي تعمل أكثر مما تتكلم ، والصمت أيها العاقل يمنحك طاقة قوية للتفكير بعمق في كل ما يحصل حولك ، والتركيز بعقلانية على إجابتك دون التسرع فيها .
فقد جعل الله تعالى الصمت ستراً على الجاهل ، وزيناً للعالم . . ولكنه ليس محموداً على الإطلاق ، وكذلك الكلام أيضاً ليس محموداً على الإطلاق .
لنرى ونلاحظ هذه القروبات وكثرتها وما يجري في أكثرها من الكلام الباطل واللغو ، وتكرار الأخبار القديمة والجديدة والمزيفة ونشر الشائعات التي لا تسمن ولا تغني من جوع ، وبعضهم يحاول إضحاك الأعضاء بفكاهة أو كذبة أو غيبة .
لينطبق عليها حديث الرسول ﷺ (يغدو الرجل من بيته يكذب الكذبة تبلغ الآفاق ؛ يعذب بها في قبره) نسأل الله العافية ؛ وهو ما نشاهده الآن في الجوالات والانترنت أكبر مثال على ذلك .
فلا يجوز إجبار أو إكراه أي شخص على المشاركة والكلام في هذه القروبات ، فهو حرٌ فيما يكتب ويرسل ، ولن يرضى بالإضافة إلاّ وهو يريد الفائدة منه والاطلاع على الأخبار وما يفيده أولاً بأول ، وإلاّ كان أول المغادرين .
قال – صلى الله عليه وسلم – : (من صمتْ نجا) .
قال الغزالي : ـ رحمه الله ـ ” هذا من فصل الخطاب وجوامع كلمه صلى اللّه عليه وسلم وجواهر حكمه ، ولا يعرف ما تحت كلماته من بحار المعاني إلا خواص العلماء ، وذلك أن خطر اللسان عظيم وآفاته كثيرة من نحو كذب وغيبة ونميمة ورياء ونفاق وفحش ومراء وتزكية نفس وخوض في باطل ، ومع ذلك إن النفس تميل إليها لأنها سباقة إلى اللسان ولها حلاوة في القلب وعليها بواعث من الطبع والشيطان ، فالخائض فيها قلما يقدر على أن يلزم لسانه فيطلقه فيما يحب ويكفه عما لا يحب ، ففي الخوض خطر وفي الصمت سلامة مع ما فيه من جمع الهم ودوام الوقار وفراغ الفكر للعبادة والذكر والسلامة من تبعات القول في الدنيا ومن حسابه في الآخرة ” .
فمن أضيف لقروب راضياً دون مشاركة لن يجبره أحدٌ على الخروج أو الكلام ؛ فما دام أن أحداً أضافه فليتشرف ببقائه معهم دون أذية أو لمز أو استهتار به ، أو تأليب الناس عليه .
هنيئاً لك . . أيها الصامت . . في القروب . . هنيئاً لك صمتك . . لأنك ممسكٌ بزمام قلمك ولسانك في عصر الثرثرة وفي ظل هذه الحرب الشعواء ضد الصامتين ، فقد عرفتَ كيف تكون مأجوراً على صمتك ، لا مأزوراً على ثرثرتك وكثرة الكلام الذي لا يفيد ولا يعود بالنفع .
وهذا مثال على ما يجده من الأذية ، انتشرت قبل فترة في القروبات :
ودّك تشيل من القروب الصامتين
وتفتح لهم بيبان حوش المقبره
يمكن إليا شافوا قبور الميتين
تصحى هل الغفلات والمتكبره
الوصل واجب دين بين المسلمين
ما هو كلام بالرسايل نسبره
أشوف ناس حاضرين وغايبين
صفحاتهم متوقفه ومغبره
فيه اقتراح لغير الأعضاء الفاعلين
يعلن مغادرته قبل ما نجبره
لا فايده في كثرة المتفرجين
لا تضيف معنا ناس غير معبره .
فأصبح الصمت في نظر الثرثارون تكبراً وغفلة ، وليس خلقاً إسلامياً شريفاً ، فهل ديننا أمرنا بكثرة الكلام في غير ذكر الله تعالى ، كيف غفل هؤلاء الثرثارون عن فضيلة الصمت ، بل وأصبح الصمت والميل إلى السكوت مرض يتنصّل منه البعض ، وتنهال على صاحبه الأوصاف السوداء تارة والساخرة تارة أخرى من معقد ومنغلق ومحدود الفكر وكئيب ونفسيّة .
يقول جبران خليل جبران : ( وقد يكون في الكلام بعض الراحة وقد يكون في الصمت بعض الفضيلة ) .
فالمثل العربي يقول : (إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب) .
وفي الحديث الصحيح : (وهل يكبّ الناس في النار على مناخرهم إلاّ حصائد ألسنتهم) .
ولنعلم أن الكلمة إذا لم تخرج من فم قائلها فهو مالكها والمتصرف فيها ، وإذا خرجت من فمه تصرفت هي فيه وأوردته المهالك .
بقلم
الأستاذ التربوي
عيسى بن سليمان الفيفي