المتنبي بين جيل الرواة ونظرية النقد الثقافي
- العادات والتقاليد الثقافه والتراث
- 11/2/2018
- 2210
- منقول للفائده
نعلم أن الجملة البلاغية هي تلك الجملة المشحونة بالصورة والأسلوب والدلالة ونعلم أن الجملة النحوية هي تلك الجملة ذات الطابع التداولي الخطابي، إذاً الجملة الثقافية هي أصغر خطاب في نسيج النص والنصوص وتكشف عن سر النص وسر جماهيرية خاصة - والتي تفضح المضمر الخفي والعميق الذي حوّل إلى ذاكرة نفوس القراءة عبر العصور والأزمان وما أفضى إلى استهلاك النص جماهيرياً واستمرارية الترويد وعميق الأثر في النفوس.
ولكن إذا كان النقد الثقافي يبحث عن الغائب المضمر فهل نصوص المتنبي التي تميزت بالعزة والإباء والشموخ والطموح فغائبها هو العكس حسب نظرية الغذامي وبذلك يوافق الحساد والرواة الذين أوردوا هوان واخفاق المتنبي؟
إن نظرية النقد الثقافي تفرق في أسس التحليل بين النقد الأدبي والثقافي فتقول حسب رأي الغذامي هي.
1- النسق بديل للدال في النقد الأدبي
2- الجماهيرية بديل للنخبوية وإذا درسنا أشهر نص للمتنبي ويكاد أن يكون الأكثر ترديداً وبقاءً، وجعلنا النسق هو حياة المتنبي وجدلية النقاد حوله وإشارات النص فهل سيتحقق رأي الغذامي.
يقول المتنبي:
«واحر قلباه ممن قلبه شبم ومن بجسمي وحالي عنده سقم»
ثم يسرد النص تفوقه على كل من حوله حتى سيف الدولة:
«سيعلم القوم ممن ضم مجلسنا بأنني خير من تسعى به قدم».
ولا يخفى على أحد أن المتنبي عموماً قد أشبعه النقاد درساً وقراءة للإحتمالات الكثيرة في تأويل ومحاورة نصوصه ولما تحمل معانيه من تعدد الخطاب والمعاني حتى أصبح يثير جدلية نقدية وإذا كانت هذه السطور ترمى لتسليط الضوء على الاستهلاك الجماهيري ولأن الغذامي قد وضع شروطاً للنص الجماهيري هي:
1-أن يكون النص متردداً جماهيرياً
2- أن يمتلك النص نسقين ظاهر ومضمر
3- أن يكون النسقان في حالة من الصراع
4- أن يكون النص جميلاً
ونص المتنبي السالف الذكر يمتلك جميع الشروط التي ذكرت- وحتى يتضح للقارئ شيئاً من ذلك سوف تنعرج على بعض الجماليات في النص كي يتميز النقد الأدبي من الثقافي- تقول الأستاذة/حفيظة صالح الشيخ، في كتابها «معنى المعنى» عند أبي الطيب المتنبي إن دلالات الصورة في أبيات النص السابق :«توحي بالتبدل والتحول لأن صورة الممدوح أصبحت مهتزة ومسترها المادح بمعنى خفٍ ليلطف لهجته الساخرة تجاه الممدوح في قوله:
يا أعدل الناس إلا في معاملتي فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
أعيذها نظرات منك صادقة أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
وما انتفاع أخي الدنيا بناظرة إذا استوت عنده الأنوار والظلم
وقالت :«إن الأبيات تعكس حالتين إيجابية وتتمثل بـ... أعدل الناس هو الحكم، لديه نظرات صادقة وحالة سلبية تتمثل بــ.. لا يعدل هو الخصم تلتبس عليه الأمور» ثم تبين الدراسة السخرية من الممدوح حيث تأتي السخرية من التوازي الصفات المثبتة والمنفية «احتمال تجرده من العدل والشحم والورم» فالشحم والورم صفتان للخصوم فهم يتميزون بعظم المظهر وسوء المخبر «بل أتهم سيف الدول في عقله واستوت عنده الأنوار والظلم أي لا يستطيع تمييز وتقييم الأمور».
ومن خلال نظرية الجرجاني التي ركزت على ارتباط اللفظ بالمعنى والدال بالمدلول من خلال العلاقة البلاغية والنحوية مما يفضى إلى دلالات صفية فإن القارئ يكتشف الصراع الذي يتملكه النص وتمثل بما يلي:
- مصداقية الحب من المادح وبرود مشاعر الممدوح وإدعاء الحب ممن حوله من الخصوم0
- عدم القدرة على اقناع الممدوح بذلك.
اتخاذ قرار الفراق مع وجود الارتباط بالمكان وأهله مما أدى إلى اضمحلال القناعة0
الفشل في بناء علاقات تؤدي إلى الوصول للطموح والمصداقية والشعور بالتميز العقلي على من حوله مما يفضى إلى التربع على القلوب كلها إضافة إلى الصراع الظاهر ما بينه وخصومه ومشاعره والزمن، والتناقص الشديد مع كل من حوله
ومما سبق فإن الغذائي يقول: إن من شروط النص الذي يدرس ثقافياً امتلاكه لنسق ظاهر ومضمر ويبرر ذلك «إن الكشف عن الجملة الثقافية المتحكمة في الخطاب سيظهر للقارئ خطاب النصوص المتشابهة عبر التاريخ كنص واحد».
إذاً النسق الظاهر في النص هو التميز والتفرد بكل ما هو معجز ويتمثل ذلك بــ:
التميز في العواطف وفي المشاعر والاحاسيس الصادقة.
مالي أكتم حباً قد برى جسدي وتدعي حب سيف الدولة الأمم
وغيره كاذبون مدعون «وتدّعي حب سيف الدولة الأمم»
التميز العقلي المبدع الذي يثير الجدل
«أنام ملء عيوني عن شواردها.. ويسهر الخلق جراها ويختصُم»
ومن حوله سواء الممدوح أو الخصوم فهم دونه عقلاً وإبداعاً.
أعيذها نظرات منك صادقة .. أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورُم
بأي لفظ تقول الشعر زعنفة .. تجوز عندك لا عرب ولا عجم» ـ التميز بالصدق من خلال مشاعرة المحبة تجاه الممدوح وبغضه لخصومه وهذه أخلاق. نادرة ـ
التميز الآني والمستقبلي على الجميع.
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا .. بأنني خير من تسعى به قدم
إذاً النسق الظاهر كان إظهار التميز العبقري ، عقلاً ومشاعراً وأخلاقاً.
والمتلقى يندفع مندهشاً وراء هذه المعاني والدلالات فالفرد يرغب بالتميز كفطرة وغريزة إنسانية - ولكن هل الخطاب الغائب هو العكس؟ والذي جعل من نصوص المتنبي جماهيرية هي الانساق المضمرة التي العميقة في نفوس المتلقين.
يقول الغذامي: «إن النسق المضمر لا يتبدى على سطح اللغة بل تمكن عبر الزمن من التخفي حتى أنه ليتخفى على كتاب النصوص من كبار المبدعين حتى الحداثي يبدو رجعياً بسبب سلطة النسق المضمر عليه».
مما سبق يمكن القول: إن المتنبي حسب رأي الغذامي مبدع وهذا لا يختلف عليه اثنان ولكنه كان يكتب بسياق مضمر في نفسه ترسب وخاطب العمق في نفوس القراء، وإذا رجعنا إلى حياة المتنبي يقول البرقوقي عن نسبه «هو أحمد بن الحسين بن مرة بن عبدالجبار الجعفي الكندي، وجعفي جد المتنبي بن سعد العشيرة من مذيج بن كهلان» وقيل إنه يمني القبيلة وظهر التعصب لليمانية في شعره ولكن قبيلته ضعفت وانقطع نسلها كما قال مستعطفاً كافوراً:
وأمضى سلاح قلدّ المرء نفسه .. رجاء أبي المسك قصده
هما ناصرا من خانة كل ناصر .. وأسرة من لم يكثر النسل جده
إذاً الخطاب يعكس معاني الضعف القبلي بوصف الخذلان جاء من غياب القبيلة التي أبدلت بالأسرة التي انقطت ونضب تكاثرها «وأسرة لم يكثر النسل جده» ويقول البرقوقي: «إنّ أبا المتنبي لم يكن نابه الشأن وكان سقاء بإجماع المؤرخين» ومما سبق فإن الشاعر عانى من الفقر والنسب القبلي المجهول ولذلك لم يكن من أسرة ذات جاه مما يترتب عليه أن الذات المستحيلة والأناء الفريدة ما كانت إلا الانسلاخ من ما يؤيد الرواة والحساد الماضي وأتت الذات «الأنا» بكثافة بعيداً عن القبيلة والأدب والأسرة.
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي .. وبنفسي فخرت لا بجدودي
إن أكن معجباً فعجب عجيب .. لم يزد فوق نفسه من مزيد
وكل ما سبق لا يقلل من عبقرية الشاعر كظاهرة فريدة ووحيدة بلإأن الأثير يقول «إن النابغة وبصيرته أشبه بإنسان أو ملك أو إنسان أو شيطان فهو دائماً فهو دائماً أقوى من القوة وهو دائماً متصل بشيء فوق الإنسانية ويولد مهيئاً بقوى لا تكون إلا فيه» ولكن هل الذات المستحيلة في نصوص المتنبي التي منها.
الخيل والليل والبيداء تعرفني .. والسيف والرمح والقرطاس والقلم
سيعلم القوم ممن ضم مجلسنا : بأنني خير من تسعى به قدم
أنا في أمة تداركها الله .. غريب لصالح في ثمود
وغيرها ما كانت إلا غطاء لمضمر يعكس الخفي المخبوء وما كان تشعرناً؟!
يقول الغذامي: «إن الجملة الثقافية تكشف عن المجاز الكلي للخطاب فمثلاً خطاب الحب العربي قديمه وحديثه والكشف عنه عبر النسق المضمر وعبر الأزمنة سيتحول إلى خطاب للجنوسة النسقية بوصفه مجازاً كلياً وسيكون الخطاب خطاباً متشعرناً»، من ذلك: خطاب المتنبي في كل نصوصه الجماهيرية يمثل نسق الهوان والاخفاق وبذلك تعطى الكتابات والروايات التي عُدت حسداً وحيراً يتدعها الكتاب الرواة شيئاً من المصداقية الحقيقية وإذا ما أفترضنا جدلاً أن الهوان والإخفاق هو النسق المضمر فأين يكمن؟ أثبت بعض الكتاب أن سبب فراق المتنبي لسيف الدولة أن الأول الشاعر كان مغرماً بأخت الدولة خولة وهذا يعني قدحاً بشخصية المتنبي وهذا فشل وأخفاق في آن واحد وإذا ما أعطيت شيئاً الروايات مسقفاً من المصداقية فإنها تؤيد نظرية الغذامي.
وإذا ما تأمل الفاحص المجيد قوله:
من يهن يسهل الهوان عليه .. مالجرح ميت إيلام
ضاق ذرعاً بأن أضيق به ذرعاً: زماني واستكرمتني الكرامُ
واقفا تحت أخمص قدر نفسي: واقفا تحت أخمص الانام
مما سبق يمكن القول: إن الخطاب صرخة رفض ضد الهوان والذل فالشرط «يهن،يسهل» أي حصول سهولة الهوان بالرضابة فالرفض هو الحل ولماذا لا يكون «الجرح الميت» هو رمز للهوان الذي لا يبرأ ولا يلتئم وهو الماضي الذي عاني منه وما يزال معانياً منه لذلك يقول ليس من المعقول أن استمر ضائقاً به ويبقى ملتصقاً بي للأبد كيف ذلك وحصلت على الاستكرام من الكرام لذلك فالكبرياء هي الحل «واقفاً» وهذا اللفظ يعكس ضخامة والثقل وللأنا ولا مبالاة بالقدر والوزن «تحت أخمص قدر نفسي» وتوازي بقدر الآخرين وإذا تأمل المتلقي الفعل «استكرمتني» فإن الفعل يدل على الحدث الآني المؤقت وليس النهائي كمثل «يأس» الذي يدل اليأس النهائي ولكن «استيأس» فهنا اليأس مؤقت وهذا الفعل «استكرم» يدل على التحول من وضع إلى آخر كمثل قولهم «يتحجر الطين» وإذا قلت هنا إن الهوان والاخفاق هو النسق المضمر فإن الشاعر أخفق في تحقيق طموحه السياسي وأخفق في خلق علاقات إنسانية باعتبار أن بعض الكتاب قالوا إنه جالب عدوان وأخفق في طمس الماضي ولكنه يظل عبقرية شعرية فريدة يقول محمد لطفي اليوسفي «أما المتنبي فقد لطخت صورته بالمعرات أصنافاً حتى كاد يغدو بمثابة التجسيد للشاعر المرتزق الذي مضى على دروب الهوان أصنافاً حتى أقاصيها، وإذا كان الشاعر الأمهر الذي أعاد للشعر العربي لهبه وللكلمة نارها ونجح في تحويل السلطة السياسية إلى السلطة الشعرية فألحّ الملوك في طلبه لكن تظل صورته محاطة بالمعرات بوصفه حوّل الشعر إلى قيمة تبادلية ومضى على دروب الهوان إلى المنتهى» ومما سبق يمكن القول أن جوانب الشاعر تمثلت بالآتي :
1- إعادة القوة الشعرية للنص العربي وهذا تميز عبقري باقٍ للشاعر عبر الزمن .
2- خلق علاقة ما بين الشعر والسياسة بغرض قوة الكلمة الخالدة أما الجوانب التي السلبية فهي:
1- الجو لطخت صورته المعرات حيث سار في طرق الهوان حتى المنتهى.
2- تسلم مقابل الكلمة المال فذهب المال واستمرت الكلمة فنجحت السلطة السياسية بالتخليد وفشل المادح بالحكم والسلطة وظل ممنياً بها وهذا فشل لا يختلف عليه أثنان لا سيما أن الغذامي يقول «عندما نكتشف النسق المضمر والجملة الثقافية تصبح النصوص المماثلة في القديم والحديث نص واحد بأداته التعبيرية وسيكون الخطاب مستشعرناً» ومن ذلك فإن المتلقي ينجر وراء خطاب غائب هو رفض الهوان باعتبار الفرد بمختلف طبقاته يتمنى الشخصية المستحيلة الكارزمية الأبية الطامحة والعبقرية والنبوغ والتي هي مجرد فحوله قال عنها الغذامي «إنها انفصال القول عن الفعل كمثل تقبل الكذب والاسئناس بالمبالغة والطرب للقول البليغ فتحولت عبر الزمن إلى قيم ذهنية مسلكية في ثقافتنا صرنا كائنات مجازية».
وإذا ما افترضنا جدلاً أن النسق المضمر في نصوص المتنبي هو الهوان والاخفاق فأننا نعطي مبرراً ومصداقية للذين كتبوا في عيوب المتنبي وشخصية وتتحول حيل الرواة والحساد إلى صفحة جديدة تزيل شيئاً من عبقرية الشخصية للمتنبي ويظل عبقرية شعرية بليغة صنعت في أذهان المتلقين عبر الزمن مكاناً وقيمة ذهنية لا يمكن محوها وبذلك تقل الجدلية تجاه هذه الشخصية وإذا كان محمد لطفي اليوسفي يقول «ثمة في الأخبار التي تناولت حياة المتنبي وشعره نوع من التعارض والجدل تشير صراحة ووقع اعتمادها في الإحاطة بجوانب من شخصية الشاعر وسلوكه وسيرته تحمل مقاصد واضعيها وناقليها ويعني أيضا أهميتها وفاعليتها في الذاكرة الجماعية وهي لا تتأتى مما تقوله بل مما تتستر عليه».
مما سبق فالكاتب يريد القول إن كل الأخبار مقاصدها كانت التقليل من عبقرية المتنبي ولكن حسب رأي الغذامي أصبح لها موقع مختلف خاصة وأنها معتمدة وفاعلة في الذاكرة الجماعية الأدبية فإذا كان النسق المضمر هو الهوان والأخفاق فهل النصوص المماثلة النصوص المتنبي نسقها المضمر الهوان والإخفاق أيضا؟!
هذا التساؤل جائز خاصة وإن هناك نصوصاً مماثلة كنصوص المدي.
ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل: عفاف وأقدام وحزم وتائل
وتصبح النصوص نصاً واحداً؟
وقد عيب على المتنبي أشياء كثيرة في شعره ذكرها جهابذة النقد، ولست الآن من تعدادها بسبيل، فقد عابوه في اللفظ، وقد عابوه في المعنى، وقد عابوه في المناسبة. ومثل المتنبي من يعاب، ومن يجتهد أهل النقد بأن يثبتوا له نقصًا، لأن الحسناء هي التي لكمال حسنها يبحث لها الناس عن مكان لا يستوفي فيه التناسب حقه حتى لا يجدوا فيها ذامًا، ولو كنت أملك من الوقت الآن ما يتسع لهذا الغرض لسردت من اعتراضات الأدباء على المتنبي ما يستغرق كتابًا، ويجوز أن أرد كثيرًا من أقوال منتقديه، وأن أؤيد البعض الآخر، وأن آتي بما لم أعثر عليه في الكتب. وغاية ما يقال في هذا الباب أن المتنبي له غث يكاد الإنسان لا يصدق صدوره عنه، وأنه ينزل في الأحايين نزولاً يكاد يوقع الشك في نسبة كلامه إليه. وأنه ليحار الإنسان لشاعر مثله يقول ما يقول من المعجزات، ثم يقرنها بما يقرنها من المزعجات، وهذا مما اتفق عليه أهل الأدب في نقد المتنبي، ولكن الطامة الكبرى التي غطت على الجميع قصيدته التي مطلعها:
"ما أنصف القوم ضبة"
فإن الذي يقرؤها ويتأمل معناها أو مبناها يقول إنه قضاء وقدر نزل بالمتنبي ليس غير. ولو لم يكن مقدرًا عليه أن يسقط هذه السقطة لما تصور العقل أن عبقريًا يبلغ من البلاغة ما يحير النهي، ويتفيأ من الفصاحة في ظل سدرة المنتهى، يعمد من نفسه إلى شعر يسجل بالسقوط على قائله، ويصير عليه سبة باقية على الدهر. هذا فضلاً عن أن هذا الشعر الساقط كان سببًا في حرمان البشر من تلك العبقرية النادرة، فإن المتنبي لقي حتفه في هذه القصيدة، ولقد حاول الناس أن يعتذروا عن المتنبي في ارتكابه هذه الصلعاء التي قتلته مادة ومعنى، فحاموا وما نزلوا، ووردوا وما نهلوا، وعندي نسخة من شرح ديوان المتنبي لأبي العلاء من أبدع النسخ خطا وأجودها ضبطًا، ولكنها لا تشتمل على جميع ديوان المتنبي بل على النصف الثاني منه، وقد قرأت فيها خبر الحادثة التي نظم فيها أبو الطيب تلك الأبيات الخاسرة فهو يقول ما خلاصته:
"كان ضبة يغدر بكل أحد نزل به أو أكل معه أو شرب ويشتمه. واجتاز أبو الطيب باللطف فنزل بأصدقاء له وسار خيلهم إلى هذا العبد واستركبوه فلزمه المسير معهم. فدخل هذا العبد الحصن وامتنع به وأقاموا عليه وليس سلاحه لهم إلا شتمهم من وراء الحصن أقبح شتم، ويسمي أبا الطيب بشتمه، وأراد القوم أن يجيبه بمثل ألفاظه القبيحة، وسألوه ذلك فتكلف لهم على مشقة وعلم أنه لو سبه لهم معرضًا لم يفهم ولم يعمل فيه عمل التصريح. فخاطبه على ألسنتهم من حيث هو فقال في جمادى الآخرة سنة ثلاث وخمسين وثلثمائة.
قال ابن جني: "ورأيته وقد قرأت عليه هذه القصيدة ينكر إنشاءها" وكان مثل أبي الطيب في هذه القصيدة مثل بشار كما روى ابن مهروية عن أبيه قال قلت لبشار يا أبا معاذ إنك لتأتي بالأمر المتفارق فمرة تثير بشعرك العجاج فتقول:
إذا ما غضبنا غضبة مضرية **هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دمًا
إذا ما أعرنا سيدًا من قبيلة ** ذرى منبر صلى علينا وسلما
ثم تقول:
رباب ربة البيت ***تصب الخل في الزيت
لها سبع دجاجات ***وديك حسن الصوت
فقال: إنما أكلم كل إنسان على قدر معرفته، فأنت وعلية الناس تستحسنون ذلك، وأما رباب فهي جارية تربي دجاجًا وتجمع بيضهن، فإذا أنشدتها هذا حرصت على جمع البيض وهو أحسن عندها وأنفق من شعري كله، فإذا أنشدتها في النمط الأول لما فهمته ولا انتفعت به". فهذه صورة المتنبي في هذه القصيدة، ومن أمعن النظر في هذه العبارات تبين له وهن العذر وضعف الدفاع، فإن عبدًا كهذا ذكروا عنه ما ذكروا من لؤم أصله وبذاءة لسانه وولوعه بشتم الخلق، لا يعلم الإنسان كيف أن رجلاً في علو مقام المتنبي يقابل كلامه بمثله، أفلا ضحك منه وهزأ به وقال لمن حوله دعوه وشأنه، وقال لمن أراده أن يجيبه على ألفاظه القبيحة: "لم أكن لأنزل إلى ساحة كهذه وأن أجعل نفسي سفيها بإزاء سفيه". أو أنه إن كان ولا بد من أن يجيب رفقته إلى ما اقترحوه، فقد كان يمكنه وهو أمير الكلام وسلطان سلاطين البيان، أن يأتي من الكناية بما هو أفعل من التصريح، وأن يعرض تعريضًا يبلغ به الغاية بدون تصريح على اللفظ القبيح. وأحسن ما في هذه القصة قول ابن جني أنه قرأ على المتنبي هذه القصيدة وهو ينكر إنشاءها، ويا ليته سير في الآفاق أنها ليست له، وأعلن منها براءته، ولكن القول إذا برز، كالسهم إذا نفذ، وقد كان ينبغي للمتنبي أن يعلم أن مثله إذا قال شيئًا علق باسمه طول الدهر، ولم ينفعه بعد ذلك عذر.
وإنما هي نازلة سبق بها اللسان لأمر يريده الله فكان منها أن فاتكا الأسدي خال ضبة بن يزيد الضبي عندما بلغته هذه القصيدة، أخذ يترصد المتنبي. فبينما كان المتنبي راجعًا من عند عضد الدولة بن بويه إلى بغداد عرض له فاتك الأسدي في عدة من أصحابه قيل: إنهم كانوا سبعين فارسًا. إذ لم أزل أتذكر بيتًا في رثائه:
عدت على المتنبي من فوارسها *** سبعون في العد لم تنقص ولم تزد
القصيدة هي:
أَمـا تَرَى ظَفـَراً حُلواً سـِوَى ظَفـَرٍ *** تَصافَحَت ْفيهِ بيـضُ الهِـنْدِ والِلمَـمُ
يـا أَعـدَلَ النـاسِ إِلاَّ في مُعامَلَـتي ***فيكَ الخِصـامُ وأَنـتَ الخَصْـمُ والحَكَـمُ
أُعِيـذُهـا نَظَــراتٍ مِنْـكَ صادِقـَـةً***أَنْ تَحْسَبَ الشَحمَ فيمَـن شَحْمُـهُ وَرَمُ
وما انتِفاعُ أَخي الدُنيا بِناظـرِهِ ***إِذا استَوَتْ عِنـدَهُ الأَنوارُ والظُلَمُ
سَيَعْلَـمُ الجَمْـعُ مِمَّـن ضَـمَّ مَجْلِسُنـا***بِأنَّني خَيْرُ مَـن تَسْـعَـى بـِـهِ قـدَمُ
أَنـا الَّذي نَظَرَ الأَعمَـى إلى أَدَبـي***وأَسمَـعَـتْ كَلِماتـي مَـن بـِـهِ صَمَـمُ
أَنـامُ مِـلءَ جُفُـوفي عـن شَوارِدِهـا***ويَسْـهَـرُ الخَلْـقُ جَرَّاهـا ويَختَـصِـمُ
وَجَـاهِـلٍ مَــدَّهُ في جَهـلِـهِ ضـَحِكـِي***حَـتَّـى أَتَـتْـهُ يَـدٌ فَـرَّاسـةٌ وفَـمُ
إِذا رَأيـتَ نُيُـوبَ اللّيـثِ بـارِزَةً***فَـلا تَظُـنَّـنَ أَنَّ اللَيـثَ يَبْـتَـسِـمُ
ومُهجةٍ مُهجتـي مِن هَــمِّ صـاحِبِهـا***أَدرَكْـتُهـا بـِجَـوادٍ ظَـهْـرُهُ حَـرَمُ
المنهج النقدي في القصيدة:
الإنسان / الممدوح:
يحضر سيف الدولة في القصيدة من خلال صورتين متناقضتين تتنازعان مختلف الدلالات التي ترتبط به.
صورة إيجابية: تتمثل في بنية المدح بشكل واضح من خلال وحدات دلالية ذرية توظف كلها لرسم صورة إيجابية للممدوح المنتصر.
صورة سلبية: تتمثل في بنية العتاب، حيث يبدو الممدوح مفرطاً في العلاقة التي تربطه بالشاعر، منصرفاً عنه إلى الحساد والوشاة.
ذا رَأيـتَ نُيُـوبَ اللّيـثِ بـارِزَةً ***فَـلا تَظُـنَّـنَ أَنَّ اللَيـثَ يَبْـتَـسِـمُ
ؤكد الشيخ يوسف البديعي أن هذا البيت مأخوذ من ديك الجن([xxxvi])
رة ليث في لبدتي رئبال* وإذا شئت أن ترى الموت في صو
أبيض صارم وأسمر عالي** فألقه غير أنما لبدتاه
فيرى ضاحكاً لعبس الصيال** تلق ليثاً قد قلصت شفتاه
في حين يرى العكبري([xxxvii]) أن معنى البيت مأخوذ من قول الشاعر:
أبدى نواجذه لغير تبسم ***لما رآني قد نزلت أريده
ويورد العكبري والشيخ يوسف البديعي بيتاً لأبي تمام:
فخيل من شدة التعبيس مبتسما***قد قلّصت شفتاه من حفيظته
فيرى الأول أنه مأخوذ من البيت الذي سبقت الإشارة إليه قبله مباشرة، في حين يرى الثاني أنه مأخوذ من ديك الجن.
انطلاقاً مما سبق نسجل الملاحظتين التاليتين:
أولاً : اختلاف العكبري ويوسف البديعي في تحديد موطن السرقة الأصلي، وهذه مسألة طبيعية لأن تحديد السرقة يرتبط بثقافة المتلقي وحدوسه وخلفياته المضمرة.
ثانياً : الشارح يحدد موطن السرقة في المعنى، في حين أن صاحب "الصبح المنبي" لا يحدد مجالها.
يدخل الشيخ يوسف البديعي البيت في الضرب الخامس عشر من السرقة وهو: "أن يأخذ المعنى ويسيراً من اللفظ، وذلك من أقبح السرقات وأظهرها شناعة على السارق"([xxxviii]). إلا أنه رغم ذلك يمتدح سرقة المتنبي عندما يعلق عليها قائلاً:
"لكنه أبرزه في صورة حسنة فصار أولى به"([xxxix]).
-يلاحظ من خلال كلام يوسف البديعي تركيزه على سلبية السرقة المرتبطة بالمعنى، وهذا الحكم مخالف للتصور الحالي والذي يرى أن الشعر صياغة شكلية.
إن المقارنة بين بيت المتنبي وأبيات ديك الجن تؤكد وجود تجانس واختلاف بينهما، سنحاول تحديده.
فعلى المستوى المعجمي الصرف: تتكرر مجموعة من الوحدات المعجمية بنفس الحروف والأصوات في النموذجين معاً:
أبيات ديك الجن
بيت المتنبي
ليث- ليثاً
نيوب الليث- الليث
فيرى
رأيت
كما تربط علاقة الترادف بين بعض الكلمات الواردة في النموذجين:
أبيات ديك الجن
بيت المتنبي
يرى ضاحكاً
يبتسم
قلصت شفتاه
نيوب الليث بارزة
وهناك تشابه على مستوى البنية التركيبية، فالمتنبي يستعمل "إذا رأيت" وهذا التركيب مشابه لـ"وإذا شئت أن ترى" الذي يستعمله ديك الجن.
كما أن النموذجين يتجانسان على مستوى الدلالة.
انطلاقاً من العملية الوصفية السابقة، يمكن تحديد الآليات التي تتحكم في علاقة التناص بين المتنبي وديك الجن:
- آلية المماثلة : وتتحدد في تشابه النموذجين على عدة مستويات: المعجم، التركيب، الدلالة، وهذا يؤدي إلى حوار بين الشاعرين يطبعه احترام النموذج الأول وتكريسه.
- آلية التكثيف : إن الفرق الجوهري بين النموذجين يتمثل في خاصية التكثيف التي تميز بيت المتنبي، على المستوى الدلالي، بواسطة الاختزال وتجنب الحشو والتمطيط والتفصيل. ولا شك أن البحر كشكل عروضي قد ساعد المتنبي على تحقيق عنصر التكثيف.
- آلية التأليف : هناك عنصر آخر منح بيت المتنبي جمالية آسرة، يتحدد في طريقة التأليف بين الوحدات المعجمية وطبيعة العلاقات التركيبية التي تجمع بينها. ويمكن القول بتحفظ مرن، أن بيت المتنبي أقرب إلى بيت أبي تمام على مستوى التأليف.