بِرُّ الوالدَيْن .. تجارة رابحة في الدارَيْن
- القصص والروايات
- 27/2/2017
- 1643
- منقول للفايده
بِرُّ الوالدَيْن .. تجارة رابحة في الدارَيْن
استمَعتُ للشَّيخِ "ناصر العمر" ، وهو يروي قصة عجيبة ملخصها : أنه ألقى محاضرة في أحد المناطق ، فاستضافه مديرُ مكتبِها الدَّعَوي ، وتجاذبا أطرافَ الحديثِ حتى حصلَت مناسبةٌ ذكر فيها هذا المديرُ أنَّ ما هو فيه مِن الثراء والغِنى لعله بسبب دعواتِ أمه له ، حتى قال للشيخ "ناصر" بما مفاده : كنت وحيدًا لأمي ، وتأخرْتُ في الزواج وببناء منزل لأجل العناية بها ، وكنت إذا حصَّلت مالاً أهديته عليها ، ثم هي مِن نفْسِها تتصدق به على الفقراء والمساكين ! ، حتى جئتها يومًا بصندوقٍ أو كارتون مملوءٍ بالمالِ فوضعْتُه بين يديها ، وصادف أنها كانت تصلي عندما جئتها بذلك ، فانتظرتها حتى فرغت من صلاتها ثم قلت لها : ( نحمد الله على هذا المال ، وهو لكِ فتصدقي به ) وعندما رأته رفعت يديها وهي في مصلاها فدعت لي قائلةً : ( اللهم اجعل خمسَه خمس خمْسات ! ) - تقصد أن يُضاعف اللهُ له في المالِ الذي يربحه خمسة أضعافه - ، فاستُجيبَت دعوتها ، ثم ذكر للشيخ "ناصر" شواهد تجارية عدة ضوعف له في أرباحها خمسة أضعافها .. ومِن ذلك أنَّ أحد التجار اشترى منه أرضًا بخمسة ملايين ، ثم رجع عن شرائها ، ثم جاء تثمين عليها بلغ خمسة وعشرين مليونًا أو تزيد !! .. ثم قال للشيخ : وصارت أغلب مبيعاتي وأرباحي على هذا النحو : تُضاعف لخمس مرات بسبب دعوة أمي ! ، ثم تزوج وبنى بيتًا ورزقه اللهُ بأولادٍ ومالٍ وفيرٍ عظيمٍ ! .
وبإمكانك الاستماع لهذه القصة من هذا الرابط :
وتجدها منشورة عدة مرات في اليوتيوب تحت عناوين منها : ( الشيخ ناصر العمر : قصة بر الأم ، أو بر الوالدة ) .
فرأيتُ بعد استماع هذه القصة أنه من المفيد أن أذكر ما أعرفه مما يشابهها من قصص عجيبة رُوِيت لي شخصيًّا بأسانيد كالألماس .. لتكون منبهةً للمقصرين مع والديهم لعلهم أن يستيقظوا من نوم الغفلة ، وأن يطيعوا ربَّهم ، ويبروا بوالديهم ليظفروا - بإذن الله - بسعادة الدارين ، ومعينةً تلك القصص - بعون الله - للبارين على بِرِّهم ، ولأجل أن يتنافسوا في ميدان هذه العبادة الجليلة التي كثُرت في بيان فضلها الأدلةُ والبراهين .
وأسرد تلك القصص باختصارٍ مِن بابِ : ﴿ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ "مقتبس من آية : 176، من سورة الأعراف" .
ودونك هذه القصص المؤثرة التي جرت كلها لرجال من "بريدة" - عاصمة القصيم - ، ولو تتبَّعنا بعض ما يماثلها مِن ذات المنطقة أو غيرها مِن سائر المناطق لربما ضاق بنا المقامُ جِدًّا ! :
1- وأحد تلك القصص جرت لشخص من أسرة "العليان" في بريدة .. فقبل سنتين تقريبًا حدثني في مسجدي أخوه غير الشقيق بأن أخاه هذا كان بارًّا بوالدته برًّا عظيمًا ، حتى إنه توقف عن أعماله كلها لعشر سنوات خادمًا لأمه المريضة وأنفق على علاجها حوالي مليوني ريال ، وأظنه قال سافر بها خارج المملكة مرارًا لعلاجها على نفقته الخاصة .. ثم توفيت - رحمها الله - .. ومرت فترة قصيرة حتى بدأت الدنيا تنفتح في وجهه ، وباع أرضًا له في شمال المملكة بمال هائل وباع أخرى له في شرق بريدة بأموال كبيرة حتى عاد له ما أنفقه على والدته لعله بأضعاف كثيرة ! ..
2- وحدثني آخر عن زوج أخته بأنه كان غاية في الفقر بخلاف إخوانه الذين كانوا موظفين وأمورهم المادية طيبة ، وكانت والدتهم مريضة عقليًّا ومرفوع عنها القلم بحيث لا تصلي ولا تصوم ، وقد انشغل عنها والدُه وأبناؤُها إلا واحد منهم فقط وهو ذلك الفقير ، فقد كان بارًّا بها محسنًا إليها ، ويقول لي هذا الأخ : وكان والدي رجلاً صالحًا ولما أن أراد ذلك الرجل الزواج بأختي علم والدي بضعف حالته المادية فأرسلني إليه أن لا يتكلف في المهر ، ثم تزوج بأختي ، وبعد زواجه بفترة قصيرة جاء بأمه المريضة عقليًّا ووضعها عنده ثم برَّها وأختي برًّا حسنًا وأحسنا إليها لحوالي خمس عشرة سنة حتى توفيت ، وكانت الدنيا تنفتح عليه شيئًا فشيئًا حتى غلب إخوانه وافتتح محلاًّ تجاريًّا كبيرًا تميز به عمن سواه على مستوى منطقة القصيم وأنشأ من خالص ماله حوالي خمسة جوامع آخرها رأيته بنفسي في بريدة .
3- وحدثني أحد الاخوة الأفاضل من وسط بريدة بأن خاله كان موظفًا عاديًّا في أحد المؤسسات الحكومية ، وكان متزوجًا من امرأتين ، وقبل عشرين عاماً كانت الرواتب تُسلَّم يدًا بيد لا كما هي عليه الحال الآن من تحويلها لحسابات الموظفين البنكية ، فكان خالي إذا استلم راتبه جاء به كاملاً فوضعه في حِجْر أمه لتأخذ منه ما تشاء ! ، فكانت في كل مرة تتأثر من فعله هذا وتسيل دموعها على خديها وتدعو الله له ، وكانت لا تأخذ من راتبه الذي يضعه كاملاً في حِجرها إلا اليسير لعِلْمها بضعف حالته وقِلة راتبه وكونه يعول أسرتين ، حتى كان أخوالي ينتقدون عليه ما يفعله مع والدتهم ، فكان لا يبالي بانتقادهم ويصنع معها ذلك في كل مَرة يستلم فيها راتبه ودون ملل ولا كَلَل !! .. ومرت الأيام حتى عمِل خالي في تجارتيِ التمور والحدادة .. وكان مِن حسن حظه أنْ دخل في مناقَصَات مع الدولة لإنجاز أعمال حديدية في مبانٍ ومؤسسات حكومية حتى ربح من تلك التجارتين الملايين ففاق بثروته جميع إخوانه وأهله ! .
وبعد كتابة هذه القصة أرسلتها لراويها فكتب لي بما مفاده : ( هذه قصة واقعية لخالي مع أمِّه "جدتي" - رحمها الله - ، والآن تجارته لا تُوصَف ، ماشاء الله ! ؛ ويعمل حاليًّا في تجارة التمور والحِدادة ، ودَخْله السَّنوي بالملايين ! ) انتهى بتصرُّفٍ يسير .
4- وحدثني الأخ الفاضل "محمد بن الشيخ صالح الرشيد" بأنه قبل ثلاث سنوات تقريبًا التقى وهو مسافر في الطائرة من القصيم إلى جدة رجلَ الأعمالِ "ناصر المكيرش" الذي كان يعمل سابقًا في تجارة الأنعام ، ثم تحول منها لتجارة العقار والمقاولات العامة حتى رُزِق رزقًا عظيمًا ، ما شاء الله لاقوة إلا بالله ، وكان هذا الرجل معروفًا ببِرِّ والده حتى إنه كان يبيع معه في بريدة في المواشي أو الأبقار ، فكان والده - رحمه الله - ذو طبْعٍ حارٍّ مثل بعض كبار السِّن ، فكان إذا غضب على ابنه هذا أثناء رعاية هذه الأنعام أو بيعها يأخذ أحيانًا بكفه مِن التراب المخلوط برَوثها - أجلكم الله - فيرميه في وجهه أمام الناس ، فيسكت هذا الابن البار خافضًا جناحه لوالده ماسحًا بهدوء وحِلمٍ أثرَ ذلك الرَّوث عن وجهه ! ، وكان الناسُ مُعجبين منه بذلك ويروون له هذه المَنْقَبَة ؛ يقول محدثي الأخ "محمد الرشيد" : وفي الطائرة بدأْتُ والتاجرُ "ناصر المكيرش" نتجاذب أطرافَ الحديث حتى سألتُه عن سِر ثروته الكبيرة ! .. فأجابني بما مفاده : لعله لسببين : بر الوالدين ، وكثرة الصدقات ! .
5- وحدثني أحد الإخوة بأنَّ رجلَ الأعمال المشهور في بريدة "صالح السلمان" - رحمه الله - كان بارًّا بوالديه ، وذكر له قصةً عجيبة في البِر لا أستحضرها الآن ، ولعل ما فُتِح له في الدنيا من أبرز أسبابه بره بوالديه وإحسانه إليهما .
6-وذكر لي أحد أبناء "موسى الحَمد العليان" - رجل الأعمال المعروف في بريدة - شيئًا من بره بأمه منذ صغره .. ولعل من أبرز أسباب ما فتح له من الدنيا بره بوالديه ، ولا زال بارًّا بهما حتى بعد وفاتهما ، وقد حدثني الشيخ "مساعد المديفر" - خطيب جامع الراجحي في بريدة ؛ حفظه الله - بأن "موسى الحمد" طلب منه وهما في مكة المكرمة أن يكتب عن أحد أملاكه هناك ليكون وقفًا لوالديه - رحمهما الله - ، غير أن اللافت أنه أدخل اثنين من أقاربه في كتابة ذلك الوقف مع والديه ، يقول الشيخ "مساعد" : فسألته عن ذلك ؟!! ، فقال بأنهما لم يُرزقا بذرية يدعون لهما فأدخلتهما مع والدي في ثواب ذلك الوقف ! .
فياله من موقف عجيب وإحسان عظيم ومنقبة فذة ! .
وهنا .. ومِن خلال هذه القصص العجيبة نُدرك صِحةَ مقولةِ مَن قال : ( ما رأيتُ أحدًا ناجحًا في حياتِه إلاَّ كان له مِن بِرِّّ والديه نصيبٌ ! ) .
النفقة على الوالدين هي أوْلى النفقات ، وبركتها عظيمة :
ولعظمة الإنفاق على الوالدين فقد بدأ الله سبحانه به فقال : ﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ "سورة البقرة ، آية : 215" ، فإذا تأمَّلت كيف بدأ - سبحانه وبحمده - بالوالدين في النفقة قبل غيرهما ورَبَطَت ذلك بقوله عز وجل : ﴿ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ "سورة سبأ، من آية : 39" ، أدركت عندئذٍ كيف أن اللهَ - وهو الغني الكريم والشكور العظيم - يُجزل في الخُلْف والعطاء لمن أنفق على والديه وأحسن إليهما ابتغاء وجهه الكريم أكثر من غيرهما ! .
لماذا جاءت الوصية ببر ( الأم ) أكثر من ( الأب ) ؟! :
وقد علَّق الشيخ "ناصر العمر" على القصة المذكورة بعاليه قائلاً : ( بِرُّ الوالدين ليس بالأمر السهل ، وبخاصة بِر الأم ، لأن الأب غالبًا يأخذ حقه ، بينما الأم مستضعفة ، ولذلك ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رجلاً سأل النبي : يا رسول الله ، مَن أحقُّ الناسِ بحُسْنِ صحابتي ؟! ؛ قال : ( أمك ) ، قال : ثم مَن ؟! ، قال : ( ثم أمك ) ، قال : ثم مَن ؟! ، قال : ( ثم أمك ) ، قال : ثم مَن ؟! ، قال : ( ثم أبوك ) رواه البخاري في «صحيحه ، م : 5971» ، ومسلم برقم : «2548» ؛ وهذا الحدث لا يدل - والله أعلم - على أن الأم أفضل من الأب كما قد يفهم البعض ، ولكن لأن الأم مستضعفة وهي بحاجة أكثر للعناية بها ، وتعبها حمْلاً ووضْعًا أشَد ، فجاء الأمر بالإهتمام بها أكثر من الأب ، لأنَّ الأبَ عادةً يأخذ حقَّه ويقدر على الاستغناء عن غيره ؛ والله أعلم ) انتهى بمعناه .
وقد ثبَت عن الصَّحابيُِ الجليلِ ، حَبرِ الأمَّةِ وترجُمانِ القرآن "عبد الله بـن عباس" - رضـي الله عنهما - أنه قال : ( إِنِّي لَا أَعْلَمُ عَمَلًا أَقْرَبَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ بِرِّ الْوَالِدَةِ ) رواه الإمامُ البخاري في «الأدب المُفرد ، برقم : 4» بإسنادٍ صحيحٍ كالذَّهَب ؛ ورِجاله ثقاتٌ ، روَى لهم الجمَاعة .
وكدليلٍ على إجلال الحافظ "البخاري" للوالدين لعِلمه بما جاء في فضل بِرِّهما ، فقد استفتح بذلك - أي ببعض ماجاء في فضل برهما - كتابَه هذا «الأدَب المُفرد» - المُكوَّن من (1322) حديثٍ في آداب وأخلاق شتى ! - .
* وهذا الحديث الموقوف على ابن عباس صحَّحه الألباني في «صحيح الأدب المفرد ، برقم : 4» ، وقال في «سلسلة الأحاديث الصحيحة ، 711/6» : { رواه البخاري في "الأدب المفرد" بسند صحيحٍ على شرط الشيخين } انتهى .
وعن ابن ميَّاس ، أنه قال : قال لي عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - : أَتَفْرَقُ النَّارَ [ أيْ أتخاف النار] ، وَتُحِبُّ أَنْ تَدْخُلَ الْجَنَّةَ ؟! ؛ قلت : إي ، والله ، قال : أحيٌّ والداك ؟! ، قلت : عندي أمي ، فقال : ( فَوَاللَّهِ لَوْ أَلَنْتَ لَهَا الْكَلَامَ ، وَأَطْعَمْتَهَا الطَّعَامَ ، لَتَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ مَا اجْتَنَبْتَ الكبائر ) رواه البخاري في «الأدَب المُفرد ، م : 8» ، وصحح إسناده الألباني في «صحيح الأدَب المُفرد ، م : 6» .
مَـن كان أحدُ والديْه متوفّى أو كلِاهُما :
فإنَّ من رحمة الله تعالى أن البرَّ بهما لا ينقطع ، وهما أحوج إلى البِر بهما وهما في الآخرة منه في الدنيا .
ومن البِر بهما كثرة الدعاء لهما والإستغفار لهما ، وصلة رحمهما ، وتنفيذ وصيتهما الصالحة ، وإخراج الصدقة عنهما ، وعمل الصالحات وإهداء ثوابها إليهما ، ونحو ذلك .
* قال الإمامُ أحمد - كما في «المُبدع في شرح المُقنع ، لابن مُفلِح ، 281 / 2» : ( الميِّتُ يصِلُ إليه كل شيء مِن الخير ، للنصوصِ الواردةِ فيه ) انتهى .
وما تفعله بوالدَيك أحياءً أو أمواتًا فإنك تُجازى عادةً بمثله ، والجزاءُ من جِنس العمَل ، وكما تَدينُ تُدان ! .
نسأل اللهَ ﷻ أن يوفِّقنا لبِرِّ والدينا أحياءً وأمواتًا أحسن البِرَّ وأخلصه ، وأن يُصلح لنا نياتنا وذرِّياتنا وأمورَ دِيننا ودنيانا وأخرانا ، وأن يؤتينا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، وأن يقينا عذاب النار .
والحَمدُ لله رَب العالَمين ، وصلى الله وبارك على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا .
قَـيَّـدهـا /
أبو أيوب - محمد بن صالح بن محمد السَّوِيد
إمام مسجد في حي الريان - شمال بريدة
يوم الأحد : 1438/2/6هـ.