بعض ما قيل في الفَقْرِ
- مفالات صحفيه (منقوله)
- 6/5/2011
- 1953
بَيَّنت في مقال سابق أهم أسباب الفَقْر، وبعض أهم الحلول، إلاَّ أن مآلات آفة الفَقْر، أكبر بكثير من مجرد التنظير لها. فالفَقْر، ليس آفة فقط، بل همٌّ ليس بعده هم، ومُنكر ليس بعده مُنكر.. فبميزان الفَقْر يُوزن العدل والظُلم، ويُوزن الاستقرار والاضطراب، والصلاح والفساد.. فالفَقْر، يكاد أن يكون ميزان كل شيء في حياة الناس! لذلك، اتفق العلماء والحكماء، على أن: ''الفَقْرُ رأس كل بلاء''.
وإن بحثنا، فلن نجد في القرآن الكريم، أو السُنَّة الشريفة، مدحاً للفَقْر، بل الإسلام يجعل من الفَقْر مصيبة يُستعاذ بالله منها، قال تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ)، أي خَشْيَةَ الفَقْر، وهذا ما أكده الرسول – صلى الله عليه وسلم – حين سُئل: أي الذنب أعظم؟ فقال: ''أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ''! (مسلم)، وكان – صلى الله عليه وسلم - كثيراً ما يستعيذ بالله ''مِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْفَقْرِ'' (مسلم)، وإذا أَوَى إلى فراشه، قال: اللَّهُمَّ: ''.. أَغْنِنَا مِنَ الْفَقْرِ'' (ابن ماجه).
ومن المرويات المُؤثِّرة: أن علياً – رضي الله عنه - قال: ''لو كانَ الفَقْرُ رَجُلاً لقَتَلْتُهُ''! وقال ذو النون المصري: ''أَكْفَرُ النَّاس ذو فاقةٍ لا صَبرَ له، وقلَّ في النَّاسِ الصَّابِرُ''! وقال الغفاري: ''عَجِبْتُ لِمَنْ لا يجد القوت في بيتِهِ، كيفَ لا يخرجُ على الناسِ شاهراً سيفه''؟! وقال: ''إذا ذهب الفَقْر إلى بلد، قال له الكُفر: خذني معك''! وأصرَّ ابن تيمية على: ''أن المرء لا يكون مؤمناً إلا بعد سدّ جميع حاجاته''! وقال ابن الجوزي: إن العلماء يغشون الولاة لأجل نيل ما في أيديهم، فمنهم من يُداهن ويُرائي، ومنهم من يمدح بما لا يجوز، ومنهم من يسكت عن منكرات، وسببها الفَقْر''، وقال: ''من العجيب سلامة دين ذي العيال إذا ضاق به الكسب''! ويُروى عن الشيباني: أن الجارية أخبرته يوما أن الدقيق نفد، فقال لها: ''قاتلك الله، لقد أضعتِ من رأسي أربعين مسألة من مسائل الفقه''! وعن أبي حنيفة قال: ''لا تستشر من ليس في بيته دقيق''، لأنه مُشَتَّت الفكر، فلا يكون حُكمه سديداً. وقال لقمان لابنه: ''يا بُنيّ، أكلت الحنظل، وذقت الصبر، فلم أرَ شيئا أمرّ من الفَقْر''.
وأنشد الشافعي:
''وأَنْطَقَتِ الدَّراهمُ بعد صمْتٍ أُناساً بعد أن كانوا سُكوتاً''
وقال ابن الأحنف:
يمشي الفقير وكلَّ شيءٍ ضِدَّه والنَّاس تُغلق دونه أبوابها
وتراهُ مبغوضاً وليس بمذنبٍ ويرىَ العداوةَ لا يرىَ أسبابها
حتَّى الكلاب إذا رأتْ ذا ثروةٍ خضعت لديه وحرَّكت أذنابها
وإذا رأتْ يوماً فقيراً عابراً نبحتْ عليه وكشَّرت أنيابها
وأنشد المسردي:
أشهد إن العزَّ في كثر الحلالي والعرب مَنْ قَلَّ ماله يكرهونه
من معه مال تراه يَصيرُ غالي والفقيرُ النَّاس لازم يرخصونه
يرخِّصه حتى الرفيق اللي موالي وأسرته لا قل ماله يبغضونه
لا يريده لا عمام.. ولا خوالي يمكن إن عيالَ أبوه يقاطعونه
وقال الشاعر:
إن الدراهم في الأماكن كلها تكسو الرجال مهابة وجمالاً
فهي اللسان لمن أراد فصاحة وهي السلاح لمن أراد قتالاً
وقال آخر:
إذا قَلَّ مَالُ المَرْءِ قَلَّ بَهَاؤُهُ وضَاقَتْ عَلَيْهِ أَرْضُهُ وسَمَاؤُهُ
وأَصْبَحَ لا يَدْري وإنْ كَانَ دَارِياً أَقُدَّامُه خَيْرٌ لَهُ أَمْ وَرَاؤُهُ
ويرى الدلجي في كتابه: ''الفلاكة والمفلوكون''، أي الفَقْر والفُقراء: ''أن الفَقْرَ ليس ظاهرة من ظواهر الحرمان المادي فحسب، بل هو من معوقات مزاولة العبادة، وتحقيق التنمية الروحية، والتقويم الأخلاقي''! فالانفعالات المؤثرة بسبب الفَقْر تؤثِّر على سلامة الإدراك، وصحة الرأي! وجاء في ''موسوعة السياسة'': الفَقْر يوقد في القلوبِ الحقد والبغضاء، فتتخذ المبادئ الهدَّامة أوكارها بين ضحاياه. ويرى القرضاوي: أنّ الفَقْر لا يؤثر على الفرد فحسب، بل على المجتمع، وعلى العقيدة والإيمان، وعلى الخُلق والسلوك، وعلى الفكر والثقافة، وعلى الأُسرة والأمَّة جميعاً! وقال مكيافيللي، في كتابه ''الأمير'': ''من الأسهل على الإنسان أن ينسى وفاة والده، من أن ينسى ضياع إرثه وممتلكاته''، أي أن يصبح فَقيراً! ولنا مع ابن خلدون عجب، إذ شجَّع على التملّق لتحصيل الكسب، ورأى أن المترفعين يصيرون إلى الفَقْر! اللَّهم إنَّا نعوذُ بكَ من الفَقْر، فأعنَّا يا الله على قراءة ''سورة الواقعة'' في كل ليلة فلا يصيبا الفَقْر! (رواه ابن عساكر).