بين البداوة والحضارة بيئة الشاعر ملهمة لشعره
- العادات والتقاليد الثقافه والتراث
- 14/11/2013
- 3083
- منقول للكاتب عبدالرحيم الأحمدي-جريدة الرياض
وأعني بالبداوة حياة البيد وفضائها الرحب، أما الحضارة فهي حياة المدينة وتقاليدها المدنية. ولقد عرف الصراع بين الحياتين منذ القدم، إذ يرى كل فريق تميز حياته بفضائل لا يدركها الآخر، ولا يجد متعتها. والمسألة تعود إلى ما نشأ عليه الكائن الحي وتغذى بمعطياته ماديا ومعنوياً، إذ فرضت كل حياة على أهلها نمطا من المعيشة والتعايش ومن التنظيم الذي يستجيب لحاجاتهم. والبادية ذات عطاء أخاذ عندما يجود المطر وتلبس الفياض والوهاد والنجود ثياب الربيع ذات الألوان الزاهية والعطور الطبيعية العبقة، فتغنى أهل البادية والحاضرة كلاهما بهذا الجمال وتطلعت الحاضرة إلى شمولهم بعطائه.
واليوم استطاعت المدينة أن تجذب البدو إليها وأن يبدلوا حياتهم بمعطيات المدينة رغبة في التعلم وطمعاً في نوال المدينة وحياة الرفاهية التي هي من أهداف الخطة الخمسية لتعميم الرعاية وشموليتها كل أفراد الوطن، وسد حاجته من الأيدي العاملة للاستغناء عن العمالة الوافدة، وإيمانا بأن أبناء الوطن هم عماد تقدم البلاد وهم الأدرى بحاجتها والأخلص لتنميتها والأحق بإدارة شؤونها.
وأهل البادية أشد تعلقا بها وحباً لها ألم تروا كيف زهدت ميسون في قصر الخليفة معاوية وحنت إلى البادية وهي أم يزيد بن معاوية حين نزعت إلى البادية بقولها:
لبيت تخفق الأرواح فيه
أحب إلي من قصر منيف
نزعت إلى حياة لا نلومها أن حنت إلى أيام الربيع فيها، ولكن أكثر أيامها حرارة وبرد وقسوة غير أن "وللناس فيما يعشقون مذاهب" وهي الأدرى بما يغريها في هذه الحياة إذ إن لكل بيئة أسباباً مبررة تجعلهم يستطيبون البقاء بها.
ونحن ندرك اليوم ما سببه نزوع البادية إلى المدينة من تعطيل كثير من معطيات البادية المادية والمعنوية، واعتمادهم على المدينة لإراحتهم من العناء وراء سحابة عابرة أو برق يغري بالنزوع إلى حيث يبرق. وتحري أبنائهم ما يرد في الكتب عن حياة الصحراء والتماس تفسير مفردات ذلك في المعاجم وشرح أمثالهم لتلك النصوص، دون أن يلمسوا ذلك بأعينهم. ولئن رأينا كثيراً منهم يقيم المخيمات البرية في أيام الربيع لا طلباً لمتعة الربيع وعطائه وإنما لمشاهدة المروج الخضراء والزهور الفواحة.
نعود إلى الصراع بين الحياتين فنجد الأولين أثروا الأضداد بالمناظرة بين السيف والقلم والحاضرة والبادية وغير ذلك يقول شوقي من مناظرة عن الحاضرة والبادية بطلتاها «ليلى».
البدوية و«هند» الحضرية، ومن المناظرة تقول ليلى:
أتيت لنا اليوم من يثرب
فكيف ترى عالم البادية
أكنت من الدور أو في القصور
ترى هذه القبة الصافية؟
كأن النجوم على صدرها
قلائد ماس على غانية
وتجيبها «هند» الحضرية:
كفى يا ابنة الخال هذا الحرير
كثير على الرمة البالية
تأمل ترى البيد يا «ابن ذريح
كمقبرة وحشة خالية
إلى أن تجيب «ليلى»:
قد اعتسفت هند يا ابن ذريح
وكانت على مهدها قاسية
فما البيد إلا ديار الكرام
ومنزلة الذمم الوافية
لها قبلة الشمس عند البزوغ
وللحضر القبلة الثانية
ونحن الرياحين ملء الفضاء
وهن الرياحين في الآنية
ولقد شدني لطرق هذا الموضوع أبيات استفسارية للشاعر خالد بن محمد بن مشيط الشمري أوردها الأديب عبدالرحمن السويداء في كتابه « شعراء الجبل الشعبيين» الجزء الأول ص 320، يتساءل الشاعر فيها عن البداوة والحضارة وأيهما يفضل، مخاطبا صديقا له يدعى مران:
مرَّان خبِّرني بماشفت واوحيْت
أي التحضري يا الاخو والبداوة؟
لا عادانا من منزل الدار كلَّيْت
وقمت اتذكَّرْ منزلٍ بالنباوة
وهَقَيْت يا مضمون عيني وظنَّيت
إن البداوة يا ابو الادهم نقاوة
نعم، يبدو أنهما ممن جذبتهم حياة المدينة وتذاكر البادية، وأراد الشاعر أن يعبر عن حنينه لحياة كان يألفها في البادية فأوحى التذكر له بهذا التساؤل الناشىء عن كلل الشاعر وملله من سكن الدور واشتياقه لبيت الشعر في أرض غير ملوثة بحياة المدينة.
ويبرر الشاعر تعلقه بالبادية بقوله:
حيثك لياما ان شفت ما عفت شدَّيت
وبعدك عن اللي ما يودك طراوة
ودار التحضري كنَّها حفرة المَيْت
تسقيك من غبن القريب اللعاوة
ولازم تصير مغاضبٍ لو تدرَّيت
واصبح عدواً وانت ما بك عداوة
تجيك ناسٍ تنخت الشين تنخيت
يلقون شياً ما لقته القطاوة
وعلومهم عوج طوال سماريت
لو جيتهم معك الذهب صار ماوة
هذه حياة البادية نزول وارتحال:
ولا يقيم على ضيم يراد به
الا الاذلان عير الحي والوتد
أما الحاضرة فمن وجهة نظر الشاعر فإنها سجن لما بها من فضول، وسعة معرفة واطلاع لم يألفها لشاعر أو يدرك متعة الخوض فيها، وحواراتهم تجلب الملل لتنوعها وعدم تمكنه من المشاركة فيها لأنها لا تشده كذكر أخبار المطر وقصص البطولة واشعار البادية. وهو يضع بين أيدينا نموذجاً من حوار الحضر الذي يشبه التحقيقات والتحليلات التي تزيد مهارة عن إحساس «القطط» عند البحث عن شيء تتطلع إليه. وهذا من مكتسبات حياة الشاعر في المدينة، فالقطط يندر أن تعيش في البرية، والصراحة من أخلاق البدو لجرأتهم في الابانة عما في النفس، أما استظهار الحقائق في المدينة فتخضع لعمليات الاستجواب.
ولطف من الشاعر هذا التعبير الفكه.
ثم يعود الشاعر إلى تصوير أشواقه لحياة البادية:
الله على يا اخوك من شيد البيت
في منزل به للجوازى حراوة
وعندك من الرَّبْع المسميْن ما اغليت
اللي يخلطون السخا بالقساوة
يا جيتهم لوانت عجل تمدَّيْت
تلقى مجالسهم جمال وحلاوة
وتسمع دنين نجورهم له زغاريت
مثل السباع الجائعة يا تعاوة
والبراري هي مرابع الجوازي من الظباء، ومتعة البدوي في الصيد وفي لقاء الأصدقاء الخلص الذين تجد فيهم السخاء والكرم ورفض الضيم ومواجهة قسوة الحياة، ومن جمال مجالسهم أنها لا تمل حتى أن من مر بها عجلاً جذبته فأطال المكوث بها. والبدو يفتخرون باشعال النار والدعوة لمشاركتهم مجالس القهوة، وقد مثل أصوات النجور – جمع نجر – في المضارب المتجاورة بعواء الذئاب الجائعة عندما تهم بالهجوم الجماعي. واستعارة تقاليد البداوة هنا دلالة على تعلق الشاعر بها.
إن لكل حياة جمالها وتقاليدها لتغرس التكامل في المجتمع الكبير، وطبيعة الحياة المعيشة تفرض على أهلها التخلق بطباعها والاستجابة لمقتضياتها، والحفاظ على معطياتها. وقد خفت وطأة التنافر بين المجتمعين للاندماج الذي نتج عن الوحدة الوطنية وإقبال البادية على الأخذ بمعطيات المدينة، وأخذ كل منهما يزحف نحو الآخر حتى تكاد أن تذوب معاني البداوة رغم رموزها التي تظهر في القصور والمنازل والاستراحات كاستخدام بيوت الشعر وأدوات القهوة ونحوها. ولم يعد البدو حريصين على التنقل من مكان إلى آخر لوجود الاعلاف وسيارات نقل الماء وغيرها إلى حيث يقيمون