فلا تظلموا فيهن أنفسكم

فلا تظلموا فيهن أنفسكم

 

الحمد لله بارئ السماوات والأرض، مقلب الليل والنهار، والصلاة والسلام على إمام المستغفرين بالبكور والأسحار، وبعد:

فقد شاء الله عز وجل ولا راد لمشيئته، وقدَّر ولا دافع لقدَرِه، أن يفاضل بين بعض الليالي والأيام، فيجعل لبعضها على بعض مزية، وأن يفاضل بين شهور العام، فيرتب من الفضائل في بعضها ما لا يرتبه في غيرها.

ومن الأشهر التي فضلها الله سبحانه وتعالى على غيرها: الأشهر الحرم، قال تعالى: ?إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ? [التوبة:36].

وهذه الأشهر: هي ذو القَعدة، وذو الحِجة، والمحرم، ثم رجب الفرد؛ قال السعدي -رحمه الله-: "سُميت حُرُماً لزيادة حرمتها، وتحريم القتال فيها"(1).

وقد كانت العرب في الجاهلية تعظمها وتحرم القتال فيها، وهذا فيما يظهر من بقايا دين إبراهيم -عليه السلام-، لكنهم تحايلوا على هذا التشريع، قال تعالى: ?إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ? [التوبة:37]، قال ابن كثير: "كان فيهم من القوة الغضبية والشهامة والحمية ما استطالوا به مدة الأشهر الثلاثة في التحريم المانع لهم من قضاء أوطارهم من قتال أعدائهم، فكانوا قد أحدثوا قبل الإسلام بمدة تحليل المحرم وتأخيره إلى صفر، فيحلون الشهر الحرام، ويحرمون الشهر الحلال؛ ليواطئوا عدة الأشهر الأربعة"(2).

فلما ظهر الرسول -صلى الله عليه وسلم- على قريش أعاد الأمر لما كان عليه؛ حيث قال في حِجَّة الوداع:«إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّماَوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ شَهْرُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ»(3).

قال ابن كثير شارحاً: "تقرير منه -صلوات الله وسلامه عليه-، وتثبيت للأمر على ما جعله الله تعالى في أول الأمر من غير تقديم ولا تأخير، ولا زيادة ولا نقص، ولا نسيء ولا تبديل"(4).

وبرغم تعظيم الله سبحانه وتعالى هذه الأشهر، إلا أن كثيراً من المسلمين لا يفرق بينها وبين غيرها، بل لا يتنبه لدخولها فضلاً عن التنبه لما ينبغي عليه من تعظيمها!

يقول تعالى: ?فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ? [التوبة:36]، قال ابن كثير: "أي: في هذه الأشهر المحرمة؛ لأنه آكد وأبلغ في الإثم من غيرها... وقال قتادة: إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئةً ووزراً من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء"(5).

والظلم هو مجاوزة الحد بأي صورة من الصور، والمقصود هو الوقوع في المعاصي والذنوب وانتهاك حرمات الله عز وجل، وهذا إن كان في حقوق الله سبحانه وتعالى دون حقوق الخلق فيكون ظلماً من العبد لنفسه لا لربه تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، قال تعالى: ?وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ? [البقرة:57]؛ لأن العبد بذلك يعرض نفسه لعقوبة الله جل وعلا؛ وأما إن كانت في حقوق الخلق فالظلم فيها ظاهر.

وفي كل الأحوال فإن على المرء أن يجتنب مجاوزة حدود الله في كل وقت وحين، وأن ينهى نفسه عن المنكرات ويحثها على الطاعات، وأن يدعو غيره لذلك، ويتأكد هذا في الأوقات الفاضلة والأمكنة الفاضلة، كالأشهر الحرم أو في الحرم، تعظيماً لما عظمه الله عز وجل.

قال القرطبي: "لأن الله سبحانه إذا عظم شيئاً من جهة واحدة صارت له حرمة واحدة، وإذا عظمه من جهتين أو جهات صارت حرمته متعددة، فيضاعف فيه العقاب بالعمل السيئ، كما يضاعف الثواب بالعمل الصالح"(6).

____________________

هيثم محمد الكناني*

الأحد 9 ذو القعدة 1434هـ

_____________

(1) تيسير الكريم الرحمن (ص: 336).

(2) تفسير ابن كثير (4/ 150).

 

(3) متفق عليه.

(4) تفسير ابن كثير (4/ 146).

(5) تفسير ابن كثير (4/ 148).

(6) تفسير القرطبي (8/ 134).

 

Facebook Twitter Google+ Pinterest Reddit StumbleUpon Linkedin Tumblr Google Bookmarks Email

عدد المقيّمين 0 وإجمالي التقييمات 0

1 2 3 4 5